فن العجكو.. وثقافة الهراوات والسواطير!*.
فضيلي جمّاع
—————————————–
طلبت مني الأخت الأستاذة كلتوم علي فضل الله – في رسالة بالخاص – شرح معنى “العجكو” وبأن الأخ الأستاذ حامد بخيت بصدد كتابة مقال يتداخل به مع المتداخلين في مقال الباحث والأكاديمي بروفيسور عبد الله علي إبراهيم عن حادثة العجكو الشهيرة التي أقام بسببها تنظيم الإسلامويين في جامعة الخرطوم آنذاك الدنيا ولم يقعدوها. كنت طالبا بمدرسة خورطقت الثانوية حين وقعت حادثة العجكو، وأجهل تفاصيلها إلا ما رواه لنا بعض الزملاء بالجامعة حين تم قبولنا بها لاحقاً..ثم ما كتبه معاصرو الحادثة فيما بعد.
الشكر الجزيل للأكاديمي والباحث عبد الله علي إبراهيم على أن عاد بذاكرتنا لحادثة العجكو الشهيرة في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي. والعودة للتاريخ ليست نزهة تمليها نوستالجيا أو حنين يتمخض عنه سفر الزمان والمكان. نعود للتاريخ لأننا نريد أن تقف أجيال من السودانيين على ثراء وطن متعدد الثقافات. وفيهذهالحادثةبالذاتأنيعرفوانمطاًمنتوجهاتالجماعةالتيحملتومافتئتتحملالهراواتوالسيخضدالإبداعالإنسانيوثقافةالإنسانفيبلادنا؟
أصبحت الحادثة تاريخاً. وأغرب الغرائب أن من حملوا السيخ آنذاك واصفين العجكو بالزندقة لا يمانعون اليوم أن يجلسوا متفرجين في الصفوف الأولى وهم يمسدون لحاهم ويتجشأون إن أتيحت لهم فرصة مشاهدة أداء أي فرقة راقصة لأغنية ورقصة العجكو ذاتها. والفكر النقيض هو ما جاءت به ثقافة وأدبيات الأخوان المسلمين. فهم ضد ومع الشيء ذاته. هم ضد العجكو في الستينات لكنهم مع تدريس الموسيقى في كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان. وهم مع الفن. مع أن تقدم فضائياتهم العديدة – الفضائيات الوحيدة المسموح لها بالبث في سماء السودان – أن تقدم برامج موضوعها الطرب قديماً وحديثاً. لكنهم يشترطون زي المطربة ولون الطرب ، فهم أوصياء على سلوك الناس وأخلاقهم كما يدعون! ولأن غرض هذا المقال الحديث عن “العجكو“- الأغنية والإيقاع، لا تفاصيل الحادثة سالفة الذكر، فقد رأيت – تعميماً للفائدة – أن أقدم معلومة متواضعة عن إيقاع ونغم العجكو: البيئة الإجتماعية والموقع الجغرافي وتاريخ نشأة هذا الإيقاع وكيف جيء به.
إيقاع ولحن العجكو نشأ في بادية المسيرية جنوب غرب كردفان إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945). والعجكو إيقاع خفيف ، خماسي النغمة فيما أعتقد (أرجو من المختصين تصويبي إن أخطأت). ورقصة العجكو جاءت على أنقاض ألحان (عرب الطينة)- وهم البدو الذين وفدوا إلى بحر العرب من تشاد إبان حقبة مملكة ودّاي (1635–1912). واستقروا أولاً شمال بحر الغزال (بحر العرب) – قبل أن ينتقلوا إلى منطقة دينقا – مدينة المجلد حالياً والتي كانت حاضرة لواحدة من بقايا سلطنة الداجو. يمكن الرجوع لهندرسون الذي وصف قبائل المسيرية بأنهم وصلوا إلى هناك من تشاد في العام 1774م. المهم أن أغنيات عرب الطينة هي التي تؤديها الخالات وكبيرات السن اليوم في عشية قيدومة العرس. وهي أغنيات ذات نغمات سباعية أشبه بالغناء في شمال إفريقيا ودول الخليج (سلم سباعي). أغنيات العجكو خفيفة وذات إيقاع راقص. يختلف لحن وإيقاع العجكو كثيراً من حيث الموتيفة والأداء عن المردوم والدرملي الذين شهر بهما بنو عمومة المسيرية إلى الشرق منهم – اعني قبائل الحوازمة وكنانة وولاد حميد – وكلها قبائل رعوية تتكلم نفس الدارجة وتشترك في كثير من العادات والتقاليد. علمت أن موجة المردوم والدرملي تتمدد بصورة كاسحة هذه الأيام صوب جنوب دار فور أيضاً.
“عجكو” تشبيه للمحبوب (الشاب) بالتمر الرطب ..والموتيفة التي يتم تردادها مع كل فاصل يعقب الرقص تقول : (العجكو عليْ منعوه) – أي إنها حرمت لقاء من تحب. فافتضاح العلاقة البريئة حتى لوكانت حيال زمالة المرعى أو صفقة الميدان تتسبب في حرج أولياء الأمر لذا وجب (حجرها) أي منعها الخروج إلا مع صويحباتها أو قريباتها. وكثيرا ما تشير أغنيات البنات في تلك البيئة إلى الوشاية التي يقوم بها “السمساري” وهو الواشي. أو ما يطلق عليه سكان المدن اليوم موزع “الشمار” ! ففي أغنية من منطقة الحوازمة تتساءل الفتاة : ما ضر لو كفّ السمساري عن إشاعة أكاذيبه عنها. وتصفه بأنه يرمي الكذبة تلو الأخرى كما تسقط الصاعقة (الطرنقاعة) دون سحاب في الأفق:
يا ام شلوفة نايلة ** السمساري حبايلة
برمِّي الطرانقيعْ قبل السحابة الشايلة
خدار البُرتقانْ مزروع في جناينة
وحجروني قالوا زايْلة!
وهذا ما تشير إليه الموتيفة الأساس في لحن العجكو بأنها منعت لقاء من تحب: (العجكو عليْ منعوه)!
لم تقف أغنية العجكو على الحرمان وحده بل تعدته إلى الحديث عن هجرة الشبان والتحاقهم بقوة دفاع السودان آنذاك (نواة الجيش السوداني الحالي) والتي حاربت إلى جانب جيوش المستعمر البريطاني والحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية بوعد من المستعمر أن يعطينا حق تقرير مصيرنا و استقلالنا. تقول الأبيات:
ديل غرّبو وديل صبّحوا
وديل جكّوا الريش بتّن ما جو
العجكو عليْ منعوه
و“جكوا الريش” إشارة إلى قبعة عساكر الهجانة آنذاك، وعاليها ريشة النعام.
لقد أنتهى إيقاع ونغمة العجكو بإطلالة ثمانينات القرن الماضي، حيث زحفت إيقاعات المردوم و الدرملي من جنوب كردفان إلى المسيرية في الجنوب الغربي لكردفان وإلى بني عمومتهم وجيرانهم الرزيقات في جنوب دار فور. فقبائل العطاوة الرعوية (البقارة) تتبادل كثيرا من فنون الغناء والرقص والعادات والتقاليد بحكم أنها تنسب لنسيج إجتماعي وأنساب متداخلة بدءا بسليم جنوب النيل الأبيض في خط يمتد على قطاع السافنا الغنية غرباَ حتى تشاد والنيجر. وهم يتحدثون على كثرتهم اللغة العربية بنفس اللهجة مع تباين بسيط. جدير بالذكر أنّ هذه المجموعات الرعوية التي تقول كتب المؤرخين والرحالة أنها قبائل بدوية عربية هاجرت من شمال أفريقيا – هذه القبائل ومع مرور الوقت (أكثرمن 3 قرون في السودان) هي أقرب اليوم للمناخ الثقافي للقارة الأفريقية منه لثقافة العرب الشرق–أوسطيين. بل أقول وبكل ثقة إنه لا يجمعهم بالعرب خارج السودان سوى قواسم قليلة مثل بعض المفردات النادرة في العربية وبضع تقاليد تمحي تدريجيا مع تقادم الزمن. يصف هندرسون قبائل المسيرية مثلا بأنهم يمتلكون أبقارا أفريقية وأن طبولهم الأفريقية (النقارة) تقرع طوال الليل. ولا غرابة في ذلك، فإن التعايش بين هذه القبائل والقبائل الأفريقية الأصيلة يجعل من المستحيل أن تبقى ثقافة أي من الجماعتين دون أن تقتبس من الأخرى. إضافة إلى الزواج المشترك الذي يعطي الوافد والمقيم شكلا آخر في السمات والثقافة.
هذا ما أستطيع أن أدلي به من توضيح لإيقاع ونغم العجكو الذي حاربه الأخوان المسلمون ذات يوم بالسيخ والهراوات بحسبان أنه (رجس من عمل الشيطان) وهم لا يعلمون أن مئات الآلاف من الشباب والشابات في بادية المسيرية يؤدونه في عشياتهم. يرقصون عليه في براءة متناهية بعيدة كل البعد عن الهوس الذي صبغ المتأسلمون به حياة بلد جميل إسمه السودان.
لندن – في 13 نوفمبر 2018
—————————————————
أحدث التعليقات