تختلف ثورة ديسمبر المجيدة عن سالف الثورات في أنها تعتبر إفاقة روحية أكثر من كونها إنتفاضة شعبية. الاولى لا تعيقها المكائد ولا تستوقفها المطبات، امّا الثانية فيسهل على المتواطئين الالتفاف حولها والعمل على إفراغها تدريجيا من محتواها الروحي والفكري.
هناك احاسيس مزدوجة ومشاعر مختلطة تزدحم في دواخلي في هذه اللحظة وفي هذه الصبيحة العبقة وانا استنشق سماء الخرطوم -تلك المدينة الباسلة – لتذكرنا بالتضحيات التي قدمها جيل البطولات والذي دفع روحه ثمنا غاليا في ساحة الاعتصام خاصة لتخليصنا من الطاغوت (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين)، ومن عجب اننا ما زلنا نبحث عن الجناة.
الجناة هي ذات المجموعة التي سعت لتفخيخ مسيرة البناء الوطني بتحويلها مؤتمر المائدة المستديرة من مؤتمر للحديث عن الحقوق والواجبات وتعريف العقد الاجتماعي الي مؤتمر لمناقشة الدستور الإسلامي.
يومها بدأت مسيرة الاتجار بالدين وتكونت في ذاك المحفل الوطني العصابة التي ستتكفل بتحويل تلك المنصة الى محفل طائفي يتم فيه استدراج الوطن الى ساحة الإفك والاتجار بالدين.
لم تقو القيادات الشابة حينها مقاومة هذا الابتزاز لأنها لم تمتلك مشروعا أصلا والأخطر انها خشيت فقدان “جمهورها الديني” !
تلكم كانت لحظة انفصال الجنوب والتي طرد من قبلها بعضا من نواب الشعب السوداني من البرلمان تمهيدا لقيام ديمقراطية دينية التي هي صنو الاستبداد السياسي والعسكري.
أجريت حوارا مع احد ملوك الوسط (بمعنى الوسطية الأيديولوجية) قبل عقد ونيف من الزمان، مولانا ابي للير، فقال لي أن الترابي كان ينظر اليه في ذاك المؤتمر وكأن ذبابة ركّت على كتفه عندما كان يتكلم عن الخصوصية الثقافية والتاريخية لشعب الجنوب. وها نحن ننظر ذات النظرة للحركة الشعبية وحركات تحرير السودان. فهل سيؤدي ذلك إلى انفصال غرب السودان؟لا اعتقد فالريف يسهم ب ٨٠ في المئة من الناتج القومي الإجمالي وهم -اَي نخب المركز- يجئرون لمجرد حصوله على اقل من ٥ في المئة. ولذا فهم لن يجرئوا على ابعاده طمعا في ثرواته وليس اعتزازا بعمقه الهوياتي.
إن الوعي المتدني عند الليغ السياسي القديم وتوابعه يقابله وعي متنامي عند النخب المنعتقة من الوصاية. وقد استشعرت ذلك وتيقنت منه عندما استمعت لإحدى الناشطات تعقب على قانون النظام العام وتشرح حيثية إلغائه.
قالت الناشطة والتي هي محامية من حيث التكوين والتأهيل العلمي ان مهنة بيع الخمور هي “مهنة شريفة” تمتهنها نساء الهامش. بهكذا أسلوب وبمنتهى البساطة اختزلت السيدة الناشطة قضية ذات ابعاد ثقافية وسوسيولوجية معقدة، أو لعلها أرادت الهروب إلى الامام كي لا تضطر للتكلم عن قضية الرق وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية المعقدة.
عندما الغي الإنجليز الرق، كان ٦٠ في المئة من مواطني العاصمة من العبيد والذين اضطروا في غياب الكفيل لممارسة البغاء وبيع الخمور. المأساة ليس في ظلم هؤلاء إنما في إسقاط الانطباعات عنهم على المجموعات الزنجية كافة في السودان. ولذا عندما توصف إحداهن بانها “خادم” فالانطباع عرقي وسلوكي انحرافية.
هنالك إشكالات حقيقة في الشخصية الثقافية السودانية يلزم الإقرار بها بيد أنها لا تحل بالشعارات او بالتعاطف غير الأصيل وغير الناضج، إنما بالترتيبات المؤسسية مثل الديمقراطية الفدرالية التي تعطي اهل الأقاليم كافة حق الاحتفاء بموروثاتهم والاستفادة من ثرواتهم. لا داعي إذن للوقوف عند مصطلحات مثل العلمانية والحكم الذاتي لأنها تؤجج العواطف في غير جدوى ولا تحقق المقصود. الأخطر، أنها قد تكون أكثر ديمغاغوية من مشروع الأسلمة الذي لم يستطع أصحابه تعريف معالمه حتى هذه اللحظة.
اثار موضوع المناهج مؤخراً جدلا لأن المشرفين عنوا بالمخرجات ولَم يحتفوا بالإجراء الذي يتطلب تكوين لجان من اهل الاختصاص لتصميم السياسات وفق منهجية علمية وديمقراطية فهذه تعتبر اهم افاق ثورة البنفسج (نسبة لاختلاط البياض بالحُمرة وما سال من دماء).
من حق الشعب السوداني ان يحتفل بثورته ومن حقنا كمثقفين عضويين وفرنا الغطاء الإعلامي والفكري الذي تحرك تحته الثوار دونما مِنّة او إطاعة لهو النفس ان نقول لمن كانوا محل ثقته فسولت لهم أنفسهم الالتفاف حول مبادئ الثوار انهم سيدفعون رقابهم ثمن الخيانة وثمن الاستهانة بمقدسات هذا الشعب العظيم.
إن اصحاب المخيلة الضعيفة ينزعجون أشد الانزعاج لعرض المثقفين الأحرار رواية تختلف عن الرواية الرسمية التي ألفوا سماعها لان ذلك يؤثر على تماسكهم الوجداني.
يسع هؤلاء ان يتكئوا على ارجل الثورة الثلاثة (الحرية والسلام والعدالة) كي يستعيدوا توازنهم فالثورة ماضية والنصر الحقيقي قادم باْذن الله.
الوليد آدم مادبو
١٩ ديسمبر ٢٠١٩
أحدث التعليقات