ظلت علاقتي بفكر الأستاذ محمود محمد طه ممتدة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي حين كان يعقد لقاء فكريا أسبوعيا بمكتبه في عمارة ابنعوف شمال السوق العربي قرب موقف باصات العيلفون، ثم بعد ذلك في منزله بالحارة الاولى في الثورة حين كنت في ميز معهد المعلمين العالي بالحارة الثالثة وأرافق الأخ الجمهوري المرحوم محمد أدروب أوهاج، ثم ربطتني علاقة حميمة متعددة المصادر بالاخ د. عبدالله النعيم، وفي الفترة الاخيرة بالقاهرة كنت ضيفا دائما في تجمعات المرحوم تروس بغرض التواصل مع الجمهوريين .ثم كانت ندوة مركز الدراسات السودانية الاخيرة التي أهديت لذكرى الأستاذ شهيد الفكر.
لكل ذلك كانت فجيعتي عظيمة حين قرأت بيان تأييد التطبيع مع الكيان الصهيوني وتأييد الموقف العسكري السوداني الأخير والمهرول نحو التطبيع طمعا في القبول والرضا الأمريكي . وجدت نفسي في موقف لا أُحسد عليه : هل أسير في طريق : انصر أخاك ظالمأ أو مظلومأ. وأتجاوز هذه الخطيئة الكبرى أم أقف موقف الصديق الناصح كثير العشم في فكر الأصدقاء المستنيرين؟
ماظل يميز الإخوة الجمهوريين هو الشجاعة والجرأة في طرح الأفكار ثم المغامرة ومحاولة التجديد والاختلاف عن السائد الراكد، لذلك هم لا يقدسون الاستاذ كشخص، ولكن كرمز لفكرة جديدة ، وهذا هو اسم موقعهم الإلكتروني (الفكرة)! لأنهم لو قدسوا الأستاذ لصاروا جزء من الطائفية التقليدية في بلادنا التي تقدس “مولانا” و”السيد الإمام”. الجمهوريون ليسوا أتباعا ولكنهم طلاب معرفة وعلم يقتدون بمواقف الاستاذ وسلوكه في الحياه أيضأ . ولكنهم في حادثة البيان الأخير كشفوا عن توجه طائفي خطير لأنهم تتبعوا خطوات الأستاذ وقع الحافر دون تساؤل أو شك وهذه ميزه الفكر الحر المستنير الذي يدعيه الإخوة الجمهوريون فقد صدر كتاب مشكلة الشرق الاوسط ثم كتاب ” إصتلحوا مع إسرائيل ” (الطبعة الاولي يناير 1978م ) في ظروف مختلفة تماما عما يحدث الآن . كانت ظروف الهزيمة 5 حزيران 1967م، من أسباب دعوة الأستاذ للصلح أن العرب ليسوا شعوب حرب ومواجهة بسبب النظم الحاكمة حينها.
أما الآن فقد تزامن لقاء البرهان مع زعيم الكيان الصهيوني مع صفقة القرن التي شطبت كل حقوق الفلسطينيين الشرعية. والأهم من ذلك فقد اشترط الأستاذ ، تطبيق قرارات مجلس الأمن من1 قرار التقسيم عام 1948 م . ولكن بيان الجمهوري لم يتطرق لهذه القرارات وكأن تأييده للقاء البرهان مجانا.
وكان تحليل الاستاذ للصراع الصهيوني _ العربي من منظور ديني سلفي، ولم يتعمق التحليل سياسيا، فهو ينطلق من الإيمان بالأديان الإبراهيمية الثلاثة : اليهودية ،المسيحية ، والإسلام ، وفي كتابه ” اصطلحوا مع أسرائيل ” نقرأ ،منطلق آرائنا السياسية “التوحيد “، ويفصل: أن يتعلم العرب من الأحداث وأن يؤوبوا إلى الفكر الناضج الذي يغنيهم عن تكرار التجارب، والدعوة الإسلامية الجديدة إذ تنظر بالاستقراء الصحيح والتحليل الصحيح والحل الصحيح لهذه المشكلة، ثم تأتي الأحداث لتؤكد صحة ما ذهبت إليه، إنما هي تدل أول الدلالات على أنها تصدر في آرائها السياسية من مركزية التوحيد وهي مركزية طوعت لهذه الدعوة أن تطلع على حقائق الاشياء، حين اطلعت على الحقيقة الإلهية الأزلية ، فاستطاعت أن تسلك الأحداث في مسلك التوحيد وأن تزنها بميزان التوحيد الذي لا يجور ولا يميل . فاتسمت نظرتها بالوضوح والدقة التي تنفذ إلى ما وراء ظواهر الأحداث وهذا هو موضوع الحل الآجل الذي نقدمه للعرب اليوم ، بما هم ورثة المصحف الشريف وعترة النبي الكريم وهو حل يقوم على بعث كلمة التوحيد “لا الله الإ الله” في بساطة نشأتها الأولى حينما صدع بها النبي (ص) وشعاب مكه ،، (ص 7-8)
هذه دعوة أصولية وسلفية في لغة جديدة يرفعها متعلمون ومثقفون يحاولون النأي بأنفسهم عن دين الطائفية ودين الأخوان المسلمين وعلمانية اليساريين . كما أن هذا التحليل خاص بالاستاذ محمود في ظرف تاريخي وسياق سياسي مختلف في العام 1978م وليس بالضرورة صالح للجمهوري في عام 2020م .
الأخوة الجمهوريون وهم يحاولون الانحياز إلى التنوير والفكر الجديد، يجب عليهم أن يدركوا ان الفكرة الجمهورية ليست نهاية التاريخ والأيديولوجيا، وأنها لاتمتلك الحقيقة المطلقة التي ترتكز على الحقيقة الالهية الازلية، وأنها فكرة نسبية متغيرة، وهذا يفرض عليهم ممارسة النقد الذاتي لأفكارهم وقبول نقد الآخرين المختلفين عنها ولكن يكنون لهم كل الاحترام والتقدير . وأن يطبقوا شعارهم الفولتيري “الحرية لنا ولسوانا.
نقلا عن: التغيير
أحدث التعليقات