كان الفتى حميدتي في عشريناته عندما تبلورت مشكلة السودان في دارفور، و حمل صوتها أبناؤها الذين لم يجدوا فرصة لإسماع مظالمهم إلا بالرصاص. كما لم تكن هذه المظالم مقصورة على دارفور، إلا أن وسائل التعبير عن الرفض تختلف، دائما، كلما دخل عنصر جديد في الصراع. على سبيل المثال، بدأ الشرق، منذ سني الاسقلال في خمسينات القرن الماضي، في بث مظالمه للحكومات المتعاقبة في الخرطوم عبر جبهة سياسية صرفة، و لذلك جاء احتجاجه ناعما نسبيا مقارنة ببث مظالم الجنوب الذي جاء سياسيا و عسكريا عنيفا، منذ بدايته، و ذلك لدخول عنصري الدين و العرق على مسرح الصراع، و ذات عامل العرق عجل بتعنيف بث مظالم الحركة السياسية في الغرب، مثلما جسده انتقال الإسلامي الكبير، داؤود بولاد من الحركة الإسلامية ذات الأشواق العروبية، مقاتلا جنبا إلى جنب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لاحقا. و كما ترى، مثلت هذه المظالم العجينة الصلصالية التي اشتغل عليها عبقري السياسة السودانية الدكتور جون قرنق، ناحتا منها فكرة السودان الجديد، التي تعطي كل ذي حق حقه دون اعتبار لما لم يختره الإنسان مثل دينه و عرقه و منطقته، فما لا تختاره ليس مصدر فخر لك أو خزي عليك.
في ذلك الجو الملتهب بالصراعات متعددة الدوافع و الأبعاد، ترعرع حميدتي بسيط التعليم، و قليل المعرفة بأسباب الصراع في السودان، فخاض مع الخائضين هذا الوحل السياسي المتحرك، فكان لقمة طرية في أيادي السلطة الإسلامية عروبية الآمال، التي قبضت على السطة في الخرطوم بقفاز عسكري منذ العام 1989، فجعلت من الفتى حميدتي عنصرا فاعلا في جنجويدها، يسفك الدماء و يغزو القرى التي كانت السلطات في الخرطوم تعتقد أنها تشكل مأوى و ملاذا لجيوش حركات الكفاح المسلح. و تلك بيئة خام متطايرة يسهل استزراع مفاهيم صراع إفنائي في تربتها ، أزكاه سلاح عرف طريقة إلى المنطقة منذ ثمانينات القرن الماضي. فامتد الموت والسلب و السلب المضاد حواليها، يحاكي إرثا سودانيا أرخت له أدبيات “الهمباته”.
و عندما استشعر النظام الإسلامي، المطاح به، تصميم شباب الثورة ، في ديسمبر 2019، في المضئ قدما بثورتهم غير مكترثين لكلفتها الباهظة ، استدعى حميدتي لحمايته منهم. و لكن الرجل أثبت، في لحظتها ، فطرة سليمة فوقف على الحياد ، فلا معنى للفروسية عنده لقتال من لا يحمل سلاحا، لكنه لم يجد بدا من اتخاذ موقف واضح ، فانحاز لهؤلاء الشباب المنادين بالتغيير انحيازا زاد به الشباب حماسة، و أكملوا مسيرتهم، التي لم تكن لها أن تنجح بهذا الشكل لولا انحيازه الواضح و الكامل لها.
غني عن القول، إن ما يقوله منتقدو حميدتي، من أن الرجل بانحيازه التام للثورة إنما هو من أجل مصلحته و أنه يريد أن ينظف سجله و سمعته السيئة، إنما هو قول لا عبرة به الآن . فلا ينتقص منك إن تماهت مصلحتك مع مصلحة الجماعة للتغيير ، في تسليس و تقليل الزمن المناط به إحداث هذا التغيير. و في حقيقة الأمر، تماهيك مع مصلحة الجماعة في لحظة احتياجهم إليك و حوبتهم لك، إنما هي إضافة لك علاوة على أنها واجب عليك. و أما اتهامه بأنه يريد أن ينظف سجله و سمعته السيئة، فلا حرج في ذلك . فالحياة، دائما، تمنحك فرصة ثانية لتتعلم من حماقاتك، لتصحح أخطاءك و خطاياك، فلماذا يريد بعضنا أن يظل بعضنا رهينة لتاريخ أحمق و عقيم، و إلى الأبد ؟؟
و بعد الإطاحة بالنظام الإسلامي اللئيم، جاءت مباحثات عبثية حول مدنية الدولة ، بددت كثيرا من طاقة و زمن التغيير. و ذلك لأن الدولة بها عدة جيوش، و ذكرنا حينها في مقال سابق إن المناداة برجوع الجيش لثكناته ، في ذلك الوقت ، مغامرة مميته لقضايا التغيير لما يعتري العسكر من وساوس انقلابية في ثكناتهم، و أن كسب تقتهم و التعامل اليومي معهم سيسمح لهم بالاندماج التدريجي في عملية التغيير.
ثم وثيقة ، فنكوص، فمسيرة مليونية، فاتفاق بمساعدة أثيوبيا، تشكلت على إثره حكومة ضعيفة و سيئة من “قوى الحرية و التغيير”، و أسوأ ما فيها أننا مجبرون على دعمها حتى تعبر بسلام لنهاية فترة الانتقال.
فأما ضعفها و عدم قدرتها على الحركة، يأتيان من غياب فلسفة التغيير لديها، مثلما أشتكى رئيس الوزاء من ذلك ذات يوم. و أما سوؤها، فاعتقاد مكونات “قوى الحرية و التغيير” أن مجرد وجودها على السلطة يحل مشاكل الشعب السوداني، و مشاكل العالم من خلفه !!
و دائما ما يذكرني عجزها بعجز الحركة الشعبية لتحرير السودان، عقب اتفاقية نيفاشا و غياب باريها الدكتور جون قرنق. فتلك الاتفافية منحت الحركة الشعبية، فضاء سياسيا كبيرا لتتحرك فيه لبلورة راي عام منحاز لقضايا التغيير . و لكنها، بدلا عن ذلك ، غاصت في كراسي السلطة الوثيرة تنتظر شريكها في الاتفاقية “المؤتمر الوطني”، المطاح به الآن، أن ينفذ لها برامجها: “السودان الجديد” !! و الباقي تاريخ كما تعلم.
كذلك نجد “قوى الحرية و التغيير”، تنتظر شريكها في اتفاقية الوثيقة الدستورية أن ينفذ لها شعاراتها “حرية، سلام، وعدالة”. و هو ما جعل شريكها في السلطة و حلفاءه القدامى يمدون أرجلهم. و لعله الأمر الذي شجع تمردا عسكريا قامت به المجموعة المسلحة المسماة “هيئة العمليات”، في يناير الماضي ، و وقفت “قوى الحرية و التغيير” عاجزة تماما إزاءه، و لم يجد الشعب السوداني من يحافظ على أمنه و مكتسبات ثورته من شكيمة ” هيئة العمليات”، سوى حميدتي الذي ضرب هذا التمرد ضربة جعل المتواطئين مع هذا التمرد يلوذون بالفرار و أذنابهم ملوية تحت أرجلهم. إذن، ها هي مرة ثانية ينحاز فيها حميدتي لقضايا التغيير ، و ينقذ وضع الاستقرار الحساس من ردة قاتلة لا ترحم.
و نحن ما نزال نعيش، الآن، وضعا شاذا، تحدثنا عنه في مقالات سابقه حتى مللناه، و ما نحب أن نوكد عليه هنا، أن ندع و نقبل كل من يستطيع أن يقدم شيئا للشعب السوداني الكريم في محنته هذه. كما لا يجب أن ينتظر حميدتي، او غيره، موافقة آخرين لأن يقدم ما يستطيع تقديمه، خصوصا إذا كان الآخرون هؤلاء عاجزين من حيث الفكر و القول و العمل، و ما يزالون يرسفون في أغلال ماض طفولي بئيس.
أحدث التعليقات