نعى الناعى بالامس احمد دريج، دفق الانسانية المتوهج، و المفكر الفذ، ورجل الدولة و المعارضة، رئيس التحالف الفدرالى الديمقراطى السودانى، الذى ارتحل الى الضفة الاخرى من نهر الوجود السرمدي، ملتحقاً برفاقه المناضلين، من عمالقة المعارضة السودانية، االذين اجتمعوا فى اسمرا عام ١٩٩٥، تحت مظلة التجمع الوطنى الديمقراطى المعارض فى اسمرا، بالرغم من اختلاف تنظيماتهم السياسية، و العسكرية، و مدارسهم الفكرية، و لكنهم توحدوا للعمل المشترك، من اجل تحقيق تطلعات الشعب السودانى فى التغيير الايجابى، الذى يؤدي الى وطن العدالة، و المساواة، و الحرية، و الانطلاق نحو النماء و الرفاه للسودان و بنيه، بعيداً عن قبضة القمع و الارهاب الاسلاموى.
و انا اذ أنعيه لاهل السودان عامة، و لاهل دار فور خاصة و لزملائه المتبقين فى التحالف الفدرالى، و لكل من عمل معه ساعة يوم، لتحقيق حلمه فى سودان فدرالى، و ديمقراطى، يحتفى بتنوعه، و يفصل بين الدين- الذى هو لله، و بين الدولة، و التى هى لجميع مواطنيه، دون تمييز بالدين او الجنس، و يتساوون بالمواطنة فقط، و بالاصالة عن نفسى، و بالنيابة عن الاحياء من زملائه المناضلين، فى هذه الضفة من نهر الوجود السرمدي- احمله تحياتنا الى عمالقة السودان، الذين مضوا الى تلك الديار، قبله بزمن ليس بالبعيد: الاستاذ التجانى الطيب،الدكتور منصور خالد، و الاستاذ فاروق ابوعيسى، و الدكتور جون قرنق دي مابيور، و الاستاذ ادوارد لينو أبيي. كذلك نحمله تحياتنا لكل شهداء الحركات التحررية، و شهداء الابادة الجماعية فى دارفور، و جنوب السودان، و جبال النوبة و النيل الازرق، و ارض البجا.
نرجو ان تبلغهم اننا ما زلنا على العهد، نطارد الحلم حثيثاً، و نعمل على تحقيقه بكل الوسائل! كما أن امالنا تجاه تحقيق ذلك اصبحت أقوى، بعد ثورة شباب السودان ، فى ديسمبر من العام الماضى، بالرغم مما نراه امامنا، رأي العين من معوقات، و متاريس، تضعها التدخلات الخارجية، و المتعاونين معهم من الداخل.
نحن على العهد و بذات الدرب سائرون.و أنا امر بهذه المحطة، لابد لى من ارسال مشاعر المواساة الصادقة لاسرتك، و بخاصة زوجتك و رفيقة دربك، التى اكرمتنا كلما حللنا بدارك، المشرع الابواب للضيوف، حتى اصبحنا نحسب جزءاً من اسرتك. لها تذهب دعواتنا الصادقة، فى ساعات معايشة الم الفراق.
كذلك نرسل تعازينا الى ابنائكم و احفادكم فى ساعة فقدهم للاب و الجد العطوف.فى ذات الوقت، و انا الذى عايشت السيد احمد دريج، كرفيق فى العمل السياسى، و الميدانى، و صحبته فى السفر، و النوم فى الخلاء، و تحمل العنت، و الشقاء، و عرفته ماجداً و حمولاً، اقول لكم ان احمد دريج كان دفقاً من الانسانية، بل هو يمثل “جرعة زائدة” من الانسانية. رأيته يطلق مشاعره الانسانية الدفاقة، و يبكى لموقف انسانى مر به ثلاث مرات، و دموع الرجال غالية كما تعلمون! سوف أختم تعزيتى بسرد مقتضب لهذه المواقف، التى جعلت الاستاذ احمد دريج يكشف عن انسانيته الشفيفة، و يطلق مكابح مشاعره الإنسانية، و يعبر عنها امام الجميع، فيما يشبه الكمال الانسانى: شديد عند البأس، و رقيق المشاعر و إنسانى عند التضامن مع البشر، و الاحساس بآلامهم :
.١. المحطة الاولى: لوكاييب معسكر التحالف الفدرالى ١٩٩٧.فى زيارته الثانية للمعسكر ، و كانت بعد دخول قواتنا فى العمليات بالجبهة الشرقية، و حدوث استشهاد وسط القوات. لم يستطع السيد احمد دريج كبح دموعه، و هو يترحم على الشهداء، فاطلق سراح “فرامل” الدموع فينا فبكينا معه شهداءنا، فيما يشبه التداوى الجماعى من حزن مكبوت. و اعتقد ان تلك كانت بدايات مراجعته لجدوى العمل العسكرى
.٢. المحطة الثانية: مستشفى( ك) فى الجبهة الشرقية. فى طريق عودتنا الى اسمرا من الجبهة الشرقية، توقفنا عند المستشفى(ك)، لزيارة جرحى العمليات. و هناك اخبرنا الجريح الذى يلينا، بعد ان اشار الى شابة من الجيش، و قد وضعت ذراعيها فى “الجبص” الابيض، و تجلس على مسافة منا، بانها اصيبت فى نفس العملية، و كانت شجاعة، بدرجة انها رفضت الاخلاء من ميدان المعركة، الا بعد الانتهاء من اخلاء اصحاب الاصابات الحرجة. عند سلامنا عليها، لم يستطع السيد احمد من كبح مشاعره الإنسانية، فدمعت عيناه و بكينا كلنا.فى تلك اللحظات بدأ السيد احمد فى مراجعة جدوى العمل العسكرى. الواضح انه أعطى الفرصة لاستعادة انسانيته، التى لا ترضى بالمعاناة حتى للمقاتل الذى يصاب فى ميدان عمل اختاره بنفسه طواعية
.٣. المحطة الثالثة: اجتماع هيئة قيادة التجمع الوطنى فى فندق نيالا ٢٠٠٠. فى هذا الاجتماع الذى اعقب مؤتمر التجمع الوطنى الديمقراطى، تطورت الاوضاع الداخلية الى منطقة، قرر فيها حزب الامة الخروج من التجمع. حدث هذا بشكل فجائي بالرغم من أن الاحتقان كان قائماً، و بشكل واضح بين مواقف حزب الأمة، و الغالبية العظمى من المنظومات الاخرى داخل التجمع. أخذ السيد احمد ابراهيم الكلمة و كان يريد الاصلاح بين الاطراف، للمحافظة على وحدة التجمع-أمل شعب السودان للخلاص من نظام الجبهة الاسلامية القومية. كانت لحظة مليئة بالمشاعر، عندما يرى الانسان ان التفتت بدأ يفعل فعله فى منظومة، كانت امال السودانين فى الخلاص معقود عليها. بدأ احمد دريج بطلب تهدئة الموقف و لكن العبرة خنقت صوته، فطلبت رفع الاجتماع حتى نتمكن من التقاط الأنفاس.هكذا عرفت احمداً فى الخلاء و المنزل، و تنطبق فيه اوصاف ابنة المك، لأخيها و هى ترثيه: كاتال فى الخلا… و عقبى الكريم فى البيت.الموت حق ابدى، يتقدم بعضنا على البعض، و لكنه درب كل البشر سالكيه، لان الله جعل لكل اجل كتاب لا يؤخر. اللهم ندعوك ان ترحم احمداً فى جنات الفردوس، و ان تلهم اهله و ذويه و مريديه و اهل السودان عامة و دارفور خاصة، الصبر الجميل فى ساعة الحزن النبيل.
أحدث التعليقات