حصريا: صحيفة جبراكة نيوز
تحقيق: حيدر عبدالكريم
“أخبرني أحد الزبائن بفرض حظر التجوال وإغلاق السوق، بسبب جائحة كورونا، معي فقط القليل من المال، أدخره لمواجهة أي طارئ يحل بأسرتي، حاولت البقاء في المنزل والالتزام بالإرشادات، إلا أن المال الذي بحوزتي كان غير كافٍ لإعاشتنا أكثر من ثلاثة أيام، فكرت كثيراً في ماذا أفعل؟ فقررت مواصلة العمل رغم الإجراءات الاحترازية، وخاطرت بصحتي من أجل أطفالي”.
هكذا تعاملت سيدة أرباب مع الحظر المفروض من قبل السلطات، لتقليل انتشار (كوفيد 19).
قابلنا العشرات من المواطنين، ووزعنا مائة استبيان في أربع ولايات مختلفة، بواقع خمسة وعشرين استبياناً لكل ولاية، ركزنا على بائعات الشاي والأطعمة والباعة الجائلين والعاملين بالأسواق وأصحاب الدخل المحدود، بالإضافة إلى استبيان إلكتروني استهدف العاملين في القطاعين (العام والخاص).
كما وظفنا معلومات متاحة عبر المصادر المفتوحة والبيانات الرسمية لخدمة التحقيق، فمعظم الذين شملهم التحقيق توقفوا عن العمل كلياً، فقدوا مصدر دخلهم الأساسي، وغاب دعم السلطات عنهم، ويفتقدون صناديق الحماية الاجتماعية، فعلوا كل ذلك بأمر (كوفيد 19).
تم إنجاز هذا التحقيق ضمن برنامج حلول وسائل التواصل الاجتماعي لمصلحة صحيفة جبراكة نيوز بالتعاون مع المركز الدولي للصحفيين ومشروع (فيسبوك) للصحافة.

لقمة سرقتها جائحة كورونا
في البداية، كنت أحاول مساعدة زوجي لتوفير احتياجاتنا، وقد اختلف الأمر الآن، منذ وفاة زوجي أحمد، منذ أعوام وأنا أتحمل وحدي مسؤولية تربية وتعليم أطفالنا الخمسة، حيث لدينا نسرين مطلقة ومعها طفلة تعيش معي بالمنزل، ونزار 19 سنة تخلى عن الدراسة لمساعدتي، نسيمة 17 تزوجت منذ سنة، ونجلاء 15 سنة، ومحمد 13 سنة، وهما يدرسان بالصف الثامن والرابع توالياً، لم تبرح سيدة أرباب (47 سنة) مكان عملها منذ خمسة عشر عاماً، تتخذ من مظلة “برندة” دكان متوسدة الأبواب في سوق النقعة وسط مدينة نيالا، مكاناً لصناعة وبيع الشاي والمأكولات الشعبية، تركها أحمد وحيدة تكافح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلذات كبدها. قالت أرباب “تأثرت حياتنا كثيراً بجائحة كورونا، ورسبت ابنتي نجلاء في امتحان شهادة الأساس على الرغم من مستواها الجيد في السنوات الماضية، فقررت التخلي عن أطفالي ومنزلي المستأجر في حي الوحدة جنوب المدينة، وواجهت خطر الإصابة بالمرض لأستمر في عملي”. تحايلت سيدة على الإجراءات الاحترازية المفروضة لتقيم في مكان عملها (برندة)، من أجل تحصيل القليل من المال وتأمين قوت يومها وأطفالها، غياب الزبائن- جلهم من العاملين في المنظمات الإنسانية- حال دون تحقيق مرادها، فتدهور دخلها، وتراكمت عليها الديون، وعجزت عن سداد أجرة المنزل لأربعة أشهر كاملة، وعكفت أرباب على تدبير حيل عديدة لتفويت تربص ظروف الجائحة بصغارها، فتنازلت عن أثاث منزلها من أجل القليل من الجنيهات، لتدفع ثمن لقمة سرقتها جائحة كوفيد 19.

ضحايا ومشردين في زمن الكورونا
يقول أبو هريرة النور، مهندس كهربائي، كان يعمل لدى بعثة اليوناميد- قطاع شمال دارفور: “وظيفتي مؤقتة أتلقى نظيرها 17 دولاراً في اليوم، تبقى في عقدي 48 يوماً لكني أصبحت عاطلاً بأمر الجائحة، بعد أن تم إيقافي عن العمل بدون راتب ضمن 14 موظفاً آخرين بالقسم، مع الإبقاء على اثنين فقط من زملائنا، وقال النور”لسودان زووم” في مايو الماضي أبلغنا المدير المباشر شفاهةً أن البعثة بصدد تخفيض عدد العاملين، تماشياً مع توجيهات منظمة الصحة العالمية للحد من انتشار الفيروس، على أن نستمر في صرف أجورنا، وتفاجئنا بإيقاف مرتباتنا منذ آخر يوم عمل في 12 مايو الماضي، وأصبحنا عاطلين بسبب الجائحة”.
بهذه الطريقة استغنت البعثة الأممية عن النور المقيم بمخيم أبو شوك للنازحين، في ولاية شمال دارفور غربي السودان وأكثر من ثلاثمائة عامل بسبب الجائحة العالمية، وعملت على تخفيض عدد العاملين إلى 20 في المائة.
وأنهت إدارة صحيفة المجهر السياسي خدمة جميع الصحفيين والعاملين بها، وسلّمت الصحيفة المملوكة للكاتب الصحفي، الهندي عز الدين، أواخر أغسطس الماضي، جميع العاملين خطابات إنهاء خدمة بعد أيام قليلة من معاودتها الصدور، عقب توقفها لفترة أربعة أشهر بدواعي إجراءات الحظر، واتخذت المجهر قرار التوقف بالتزامن مع إعلان ناشري الصحف السودانية زيادة سعر النسخة الورقية من الصحيفة إلى 45 جنيهاً، بدلاً من 15 جنيهاً، لمواجهة الزيادات المستمرة في تكاليف إنتاج الصحف، وأبدى كثير من الناشرين تفكيرهم في التوقف عن الصدور، وقال ناشر المجهر المتوقفة، الهندي عز الدين، إن الصحيفة ظلت تتعرض لخسائر يومية منذ سنوات، وذكر عز الدين أن الوضع الاقتصادي المتدهور ضمن دواعي قرار التوقف، نافياً تعرض صحيفته لأي مضايقات سياسية أو أمنية، موضحاً أن سعر طن الورق تجاوز الـ170 ألف جنيه، مقارنة بـ70 ألفاً في أبريل 2019م، وشردت المجهر العشرات من الصحفيين بتوقفها عن الصدور، بينما يعاني المئات من زملائهم ويلات ضعف الأجور وتدهور يهدد بتلاشي الصحافة الورقية في السنوات القليلة المقبلة.

طلاق على ذمة كورونا
أوضحت ملاك الزاكي، عاملة كوافير وناشطة في مجال حقوق المرأة، أن الجائحة عطلت الحياة كلياً، ونتج عنها إشكاليات اقتصادية واجتماعية ونفسية صعبة، وقالت الزاكي: “توقفت عن العمل ودخلي يعتمد على الإنتاج، فتأثرت مادياً ووصلت حد الإفلاس التام، وفكرت جدياً في ابتكار عمل إضافي من المنزل، فقصدت مجال الأعمال اليدوية وصناعة المعجنات، لكن فشلت خطتي بسبب إغلاق الأسواق وتقييد الحركة، واستعنت بوالدي الذي يملك راتباً صغيراً لتوفير الاحتياجات الخاصة، بعد الجائحة ساءت الأوضاع الاقتصادية وأصبحنا نواجه جشع التجار وغياب الرقابة الحكومية”. وبيّنت الزاكي أن تأثير (كوفيد 19) على النساء كان كبيراً، لجهة أن الأغلبية يعملن في القطاع اليومي لإعالة أسرهن، وتأثرن بالإغلاق الشامل وواجهن إشكاليات اجتماعية أخرى، بزيادة عبء العمل المنزلي والاحتكاك مع أزواجهن، مشيرةً إلى رصد حالات شجار وعنف جسدي ولفظي، وصلت حد الطلاق عند البعض.

غياب بلا انتظار
أسس الفاضل عليو عملاً إضافياً، بجانب راتبه من وظيفة مدرس، لمواجهة آثار “كوفيد 19″، وتقليل الأعباء الاقتصادية. وتحتاج أسرة عليو المكونة من ثلاثة أفراد لمبلغ ألف جنيه يومياً، لتوفير احتياجاتها الأساسية، بينما راتبه من الوظيفة لا يتجاوز العشرة آلاف جنيه شهرياً. الحكومة لم تقدم أي حلول اقتصادية لتقليل أثر الجائحة على حياة الناس، حسب عليو، بسبب الانهيار الذي يعانيه الاقتصاد الوطني، ويرهن عليو تحسن الاقتصاد بتسعير السلع وتفعيل الدور الرقابي، وضبط تجارة العملة، ورياح الجائحة تفتك بأصحاب العمل الواحد وتنذر بتسيب الموظفين لمواجهة الضوائق المعيشية.
وتقول صباح يوسف، ضابطة إدارة موارد طبيعية وبيئية: “نعمل أنا وسبعة من أفراد الأسرة ولا نوفر احتياجات منزلنا الأساسية، بسبب فيروس كورونا المستجد”، وصارت تعمل ساعات إضافية بحكم عملها في منظمة وطنية تُعنى بالجانب التوعوي. وتضيف: “زادت مصروفاتنا بزيادة مستلزمات الوقاية وبقاء عدد كبير من أفراد الأسرة بالمنزل لساعات أطول”. وترى يوسف أن العاملات بالمنازل وبائعات الشاي وأصحاب صالات الأفراح والفنانين، هم الأكثر تضرراً بالجائحة، وطالبت السلطات بإنشاء اقتصاد يعتمد على توظيف الموارد وتشجيع الإنتاج، ومراعاة الميزات التفضيلية للسلع المنتجة محلياً، لتخفيف آثار الجائحة على الاقتصاد الوطني، وتخفيف الأعباء على حياة الناس، والحد من معضلة ارتفاع الأسعار ومواجهة تحديات أي وباء قادم.
تضخم وانهيار غير مسبوق
تؤكد إحصائية الجهاز المركزي للإحصاء انهيار قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، وتفاقم نمو التضخم خلال الستة أشهر الماضية، وقد سجلت معدلات التضخم ارتفاعاً جنونياً، خلّف أثراً اقتصادياً كبيراً لدى جميع القطاعات، بسبب الارتفاع المستمر في أسعار السلع الأساسية. وحسب الجهاز المركزي للإحصاء، في مارس ارتفعت معدلات التضخم إلى 81.64% بنمو 10.28%، قبل أن تقفز في أبريل إلى 98.81%، بزيادة بلغت 17.17%. وفي مايو طبقت السلطات زيادات في أجور العاملين بنسب فاقت الـ 560%، وشرعت في تطبيق حزمة برامج اقتصادية استثنائية أعلن عنها وزير المالية المستقيل، د. إبراهيم البدوي، لحل إشكاليات الاقتصاد الوطني، وتقليل تأثيرات الجائحة على الحياة، إلا أن معدلات التضخم استمرت في الارتفاع، ووصل إلى 114%.
في يونيو بلغ التضخم 136.36 وزاد إلى 143.78% في يوليو، بينما سجل قفزة قياسية في أغسطس وبلغ 166.83 في المائة.

معاناة ومستقبل مجهول
بعد مرور أسابيع من إنهاء إجراءات الطوارئ الصحية، لا زال المواطن السوداني يعاني من معضلة ارتفاع الأسعار وانعدام السلع الضرورية، فقد طرقت الجائحة أبواب آلاف المنازل وخلفت آثاراً حياتية يصعب تجاوزها على المدى القريب. لم تكن الجائحة خطراً صحياً فقط بل كان لاعباً اساسياً في توسيع دائرة الفقر، مئات العائلات شردت وآمالٌ كبيرة حطمت بسبب إجراءات الحظر الشامل، حتى الآن تشكّل مآلات الجائحة خطراً حقيقياً يهدد لقمة عيش المواطنين ويزعزع مستقبل أطفالهم، في ظل نظام سياسي واقتصادي يعاني الانهيار والعجز عن مد العون لهم، والعناية بهم كمواطنين يستحقون العيش بكرامة.

- تم إنجاز هذا التحقيق ضمن برنامج حلول وسائل التواصل الاجتماعي لمصلحة صحيفة جبراكة نيوز بالتعاون مع المركز الدولي للصحفيين ومشروع (فيسبوك) للصحافة.

أحدث التعليقات