الجمعة, مارس 14, 2025
الرئيسيةمقالاتالسودانيون يرفضون تقاسم السلطة مع القمع العسكري

السودانيون يرفضون تقاسم السلطة مع القمع العسكري

بقلم/ مزن النيل

دأب الدبلوماسيون الدوليون وممثلي عدد من الحكومات منذ الانقلاب العسكري في السودان في 25 أكتوبر على تكرار عبارة “إعادة الحكومة ذات القيادة المدنية”. جلبت هذه العبارة الشتائم والسخرية على مكرريها وعلى الوسطاء الدوليين من قبل الشعب السوداني. يهتم السودانيين عادةً بالمحافظة على صورة السوداني المهذب خاصة أمام الأجانب، إلا أن ردودهم مؤخرًا على تغريدات هؤلاء الدبلوماسيين تخلَّت عن ذلك لصالح إغراقها بالاستهزاء والشتائم. كذلك كان رد الفعل على اتفاق 21 نوفمبر بين رئيس الوزراء المدني، عبد الله حمدوك، وقادة الانقلاب، حيث نددوا باستعداد حمدوك للمساومة مع المحرضين ضده، ورفضوه واستهزأوا به.

لقد تغيَّر الكثير في السودان في الأسابيع القليلة التي تلت الانقلاب، إلا أن التغيير في الحقيقة كان نتيجة لتراكمات السنوات الثلاث الماضية. ستواجه المحاولة الجديدة لاحتواء وتثبيط نضال السودانيين من أجل الديمقراطية والعدالة مقاومةً شديدة من الشعب السوداني، الذي أظهر بالفعل قدرته على تنظيم نفسه في ظروف صعبة وخطيرة.

من الثورة إلى الانقلاب
في صباح يوم الاثنين 25 أكتوبر، استيقظ شعب السودان على قطع كامل للاتصال عبر الإنترنت. تم تشويش القنوات الإذاعية الدولية، وانتشرت الشائعات عن اعتقال عدد من المدنيين في مجلس الوزراء الانتقالي. كانت هذه الأحداث بمثابة نهاية لعامين من اتفاقية تقاسم السلطة بين قيادات الجهاز العسكري والأمني ل​​لرئيس السوداني السابق عمر البشير وقادة المعارضة بعد ثورة شعبية أطاحت بالبشير، الذي استمرت ديكتاتوريته لثلاثة عقود. أتت هذه الاتفاقية الهشة بتأييد ودعم عدد من الأطراف الإقليمية والدولية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والمملكة السعودية والإمارات. قدم مناصرو الاتفاقية هذا الوضع وروجوا له على أنه الطريق الأفضل لتحقيق مطالب الثورة السودانية في ديسمبر 2018 -الحرية والسلام والعدالة.

اندلعت التظاهرات في السودان في ديسمبر 2018، احتجاجًا على ارتفاع أسعار الخبز والوضع الاقتصادي المتردي في ظل ديكتاتورية عسكرية فاسدة. استمرت التظاهرات لأكثر من أربعة أشهر مدفوعة بمظالم اقتصادية، ومظالم تاريخية، وغضب جديد على عنف الدولة في وجه الاحتجاجات المستمرة. وبحلول أبريل 2019، تصاعدت التظاهرات إلى اعتصامات حول المقرات العسكرية في 14 مدينة سودانية، بما في ذلك العاصمة الخرطوم. وفي 28 و29 مايو 2019، نظمت الطبقة العاملة السودانية إضرابًا سياسيًا على مستوى الدولة ضد النظام العسكري، وهتف المضربون والمتظاهرون من أجل الحكم المدني الكامل.

في تلك الأيام، كانت قوة الثوار وعزيمتهم واضحة ولا يمكن إنكارها. لم يكن لتهديدات الجيش تأثيرٌ عليهم، كما اتضح من لافتات “تعال افصلني” التي سيطرت على الخرطوم ردًا على خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد ميليشيا قوات الدعم السريع، الذي هدد بفصل المضربين وأن يحل جنوده محلهم. نمت القوة الثورية مع تحول التهديدات إلى أفعال، فعند احتجاز عدد من العاملين بالشركة القومية للكهرباء، أصدر تجمع العاملين بالشركة بيانًا هدد فيه بقطع التيار الكهربائي عن كافة المباني والمؤسسات العسكرية إن لم يتم إطلاق سراح زملائهم. وعلى الفور بالطبع أُطلِقَ سراح زملائهم.

في مواجهة هذه القوة الثورية، لجأ الجيش إلى العنف الشديد، فكانت مجزرة 3 يونيو 2019 والتي أنهت 14 اعتصامًا سلميًا في يوم واحد. قتلت قوات الدولة أكثر من مائة شخص، وقيَّدت جثث العديد من الضحايا بالطوب وألقوا بها في النيل، وتعرَّض العشرات للاغتصاب، ولا يزال المئات في عداد المفقودين حتى يومنا هذا. رغم ذلك، بعد أقل من شهر من المذبحة، وفي ظل ظروف الإغلاق التام للإنترنت، أطلق السودانيون تظاهرةً مليونية رافضة للحكم العسكري مما أوضح التزام الشعب السودان بمطلب مدنية الحكم.

انتقال فاشل
لم يكن قد مرَّ على مجزرة يونيو 2019 ما يناهز الشهرين بكثير عندما وقَّع قادة المعارضة اتفاقًا لتقاسم السلطة مع المجلس العسكري رغم كل ما حدث. كان هذا التحول في الأحداث من إنتاج القوى الإقليمية والدولية التي كافأت القتلة بنصيب في الحكومة. وساهم في إنتاجه تحالف قوى الحرية والتغيير المعارض. دفعت قوى الحرية والتغيير بالسردية “الواقعية” القائلة بأن الشراكة مع القتلة تمثل الطريق الواقعي الوحيد نحو حقن الدماء. لم تستطع هذه الشراكة أن تحقق مطالب الثورة من أجل الحرية والسلام والعدالة. فالعدالة كانت تتطلب تقليص سلطة الجيش، ومحاسبة قادته على جرائمهم، وإنهاء السيطرة العسكرية على الموارد الوطنية السودانية والشركات المنضوية تحت سلطة الجيش، والتي لم تكن تحت مراقبة وإدارة وزارة المالية.

اعتمد المدنيون في الحكومة، الذين لم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم للمتظاهرين، على اكتساب الدعم والشرعية من المجتمع الدولي. عرض صندوق النقد الدولي ونادي باريس للدول الدائنة الغنية على السودان تخفيف الديون، بالإضافة الى مقادير متواضعة من المساعدات، لكنهما طالبوا أيضًا بتنفيذ سياسات التحرير الاقتصادي، بما في ذلك تخفيض قيمة العملة، وإلغاء دعم السلع الأساسية، وخطط الخصخصة. وهكذا أتت الحكومة الانتقالية بسياسات اقتصادية لا فرق بينها وبين سياسات حكومة البشير. رغم ذلك، استنكر أنصار الشراكة أي احتجاجات ضد هذه السياسات مدعيين بأن في ذلك إضعافًا لعملية “الانتقال إلى الديمقراطية”!

كانت الحكومات الغربية راضيةً عن الصورة التكنوقراطية لرئيس الوزراء الجديد، عبد الله حمدوك، الموظف السابق بالأمم المتحدة، والذي صار ينفذ سياساتهم المختارة ويمهد الطريق للاستثمارات. أدت هذه السياسات إلى مستويات مرعبة من التضخم وزيادة في تكلفة المعيشة تجاوزت 300% في العام الماضي وحده. واستغل قادة الانقلاب الأخير هذا الوضع الاقتصادي وفشل القيادة “المدنية” كمسوغات لخطواتهم الانقلابية، مما دفع الجيش وحلفاؤه من الميليشيات إلى الاعتقاد بأن مستويات الإحباط العام حيال أوضاع البلد تحت حكم الشراكة تشكل بيئةً ملائمةً لنجاح انقلابهم.

مقاومة الانقلاب
كان العسكر على خطأ. خرج شعب السودان إلى الشوارع منذ السادسة صباحًا في يوم الانقلاب، مرددين هتافات العودة للثورة أو استئناف “المعركة المؤجلة”، كما أطلق عليها كثيرون في السودان. أقامت الجماهير المتاريس بقيادة لجان المقاومة، وكانت عدة تجمعات عمالية ونقابية قد أعلنت مسبقًا استعدادها للإضراب حال وقوع الانقلاب وسماع المارشات العسكرية، وفي مقدمتهم العاملون بالبنوك والقطاع المصرفي. كان الشعب السوداني مستعدًا إذًا للانقلاب القادم، بينما صرحت الحكومة الأمريكية أنها لم تتلق “أي نوع من التنبيه من الجيش” بشأن الانقلاب، على الرغم من أن المبعوث الأمريكي الخاص، جيفري فيلتمان، قد غادر السودان قبل ساعات فقط من الانقلاب.

واصل السودانيون تظاهراتهم تحت قيادة لجان المقاومة في الأحياء على الرغم من انقطاع الإنترنت في جميع أنحاء البلاد، والذي استمر لأسابيع متواصلة. دعا تجمع المهنيين السودانيين لتكوين لجان المقاومة في أوائل عام 2019 كأداة لشل عنف الدولة من خلال تنظيم الاحتجاجات اللامركزية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت اللجان هي صوت الشارع في مواجهة عدم رغبة الحكومة الانتقالية في إيجاد أدوات للمشاركة الديمقراطية في صنع القرار السياسي.

تقود اللجان حاليًا الحركة الاحتجاجية في البلاد، حيث تتولى مهمة القيادة التي تولاها تجمع المهنيين السودانيين قبل عامين. اللجان أكثر ارتباطًا من تجمع المهنيين بقواعدهم الشعبية في الأحياء. لذلك فهم ملتزمون بتحسين الظروف المادية لقاعدتهم أكثر من التزامهم بالتحالفات السياسية أو المانحين الدوليين. وينعكس ذلك على اختيارهم لتكتيكات التظاهر، كما ينعكس على رفضهم التام للتسويات مع الجيش ومفاوضات الغرف المغلقة مع النادي السياسي السوداني.

تشكل الطبيعة الجغرافية للجان نقطة ضعف فيما سيأتي من معارك تتطلب مستوى أوضح من التأطير الأيديولوجي. هذه المعارك لا يمكن أن يربحها إلا حزب سياسي ثوري، واللجان ليست أحزاب ثورية. رغم ذلك، أعادت هذه المنظمات القاعدية السياسة إلى الواقع الشعبي، بعيدًا عن الاجتماعات التي لا يستطيع الجمهور الوصول إليها. وهذا يعني أن موقفها من الانقلاب قائمٌ على تقييم تأثيره في تعزيز فرص الوصول للعدالة، جنائية كانت أو اقتصادية، وهو بالمقابل ليس قائمًا على كيفية رد فعل المجتمع الدولي أو على إرضائه.

واصلت لجان المقاومة استخدام المتاريس والإضرابات والعصيان المدني ضد عنف الجيش، الذي بلغ العدد المؤكد لقتلاه في الأسابيع الأربعة الماضية 42 مدنيًا، علاوة على إصابة أكثر من 500 واعتقال مئات النشطاء تعسفيًا، بالإضافة إلى اعتداءات عشوائية على شبان في الشوارع تم توقيفهم وضربهم وحلق رؤوسهم من قبل الجيش كشكل من أشكال الإذلال. امتد العنف كذلك إلى اجتياح وحصار المستشفيات من قبل قوات الأمن، مما جعلها غير قادرة على توفير الرعاية العاجلة للجرحى، وأدى إلى وفيات كان من الممكن تفاديها.

اللاءات الثلاثة
تجاهل اللاعبون الدوليون والإقليميون الذين يسعون لإعادة البلاد إلى شراكة 2019 الفاشلة هذه الجرائم. ووصف دبلوماسيون أمريكيون مطالبة السودانيين بالحكم المدني الكامل بأنها غير واقعية. وروَّج السفير البريطاني لدعوةٍ أخرى للحوار مع القتلة، وكرر دبلوماسيون عبارة “القيادة مدنية” في محاولة جديدة لخداع المتظاهرين السودانيين والتغبيش على رفضهم التام لأي تدخل عسكري. يقوم الوسطاء الخارجيون بإعادة تدوير أدواتهم التي استخدموها لإنتاج اتفاق 2019، ويشمل ذلك التواصل مع قادة المعارضة والشخصيات العامة لترويض الشوارع، مع الترويج للمفاوضات خلف الأبواب المغلقة والحوار مع القتلة العسكريين باعتباره السبيل الوحيد للهروب من إراقة الدماء. إلا أن الشعب السوداني لم ينخدع بذلك.

ترتبط لجان المقاومة التي تقود الاحتجاجات ارتباطًا وثيقًا بمجتمعاتها. إنهم يمثلون شعبًا اختبر بشكل مباشر ولمدة عامين كيف أشادت الحكومات الغربية بـ”شراكة الدم”، كما يسميها المتظاهرون، لتحقيق “الاستقرار” و”إعادة اندماج” السودان في المجتمع الدولي. جاء ذلك على حساب تجاهل العدالة الجنائية لشهداء الثورة والعدالة الاقتصادية للأحياء. لذلك لم يكن من المستغرب أن ترفض لجان المقاومة الدعوات التي وجهها لها كل من رئيس الوزراء المحتجز آنذاك، عبد الله حمدوك، والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، فولكر بيرثيس. حيث أصدرت اللجان بيانات جماهيرية رافضة لفكرة المحادثات المغلقة عن الشارع ورقابته، وأكدت التزامها بشعار اللاءات الثلاث: “لا مفاوضات – لا شراكة – لا شرعية للجيش”. ووعدت اللجان بتنظيم منصات لرئيس الوزراء في الشوارع إذا أراد التحدث للشعب الذي تعتبر اللجان نفسها “مجرد صوت” يعبر عنه.

هذه الشجاعة والعزيمة التي يبديها السودانيون في مواجهة آلة القتل العسكرية والجبهة الدولية المضادة للثورة ستغير التاريخ السياسي للسودان إلى الأبد. فبرفضها إخراج المتظاهرين من المعادلة، تعيد لجان المقاومة في السودان تعريف الاستقرار على أنه حالةٌ يشعر فيها الناس بالرضا ويكون القتلة تحت السيطرة والمراقبة وليس العكس.

رفض الاتفاق
أُعلِنَ الاتفاق بين رئيس الوزراء وقادة الانقلاب العسكري في 21 نوفمبر، بشكل متزامن مع مواكب كانت قد دعت إليها ونظمتها لجان المقاومة مسبقًا ضمن “الجدول الثوري الأسبوعي” وخرج مئات الألوف من المتظاهرين استجابةً لهذه الدعوات. المتظاهرون الذين بدأوا مواكبهم بهتافات كان من ضمنها ترديد اسم رئيس الوزراء المحتجز حينها، سارعوا بخلق شعارات تشتمه حال إعلان الاتفاق. كان هذا رفضًا واضحًا للمنطق القديم الذي أعطى الأولوية للولاء للقادة السياسيين السياسيين على حساب الالتزام بأهداف الثورة.

حمل الاتفاق الجديد الكثير من القواسم المشتركة مع خطط زعيم الانقلاب، الفريق عبد الفتاح البرهان، التي أعلنها في مؤتمر صحفي في اليوم التالي للانقلاب. فقد أزال الحكومة المدنية القائمة قبل الانقلاب، وأعاد عبد الله حمدوك إلى منصب رئيس الوزراء، وكلفه بتعيين “حكومة تكنوقراطية” جديدة، مع الإبقاء على الجنرالات في مناصبهم كأعضاء في مجلس السيادة. خلق الاتفاق وضعًا يضفي الشرعية على الانقلاب، ويزيل أي فرصة لمحاسبة القادة العسكريين على جرائمهم، كما يبسط سلطتهم على العملية السياسية في السودان.

رفضت الثورة السودانية الاتفاق وارتقت إلى مستوى جديد من القوة الثورية في تلك اللحظة. إلا أن الجبهة الدولية للثورة المضادة لا تزال عدوًا عنيدًا للثوار. لا يمكن إيقاف هذا العدو إلا من خلال جبهة ثورية أممية مكونة من الناس والجماهير الرافضة لتوجهات حكوماتهم. تحتاج لجان المقاومة إلى دعم الشعوب والثوار حول العالم، فكما يهتف المتظاهرون في جميع أنحاء السودان: “الشعب أقوى، والردة مستحيلة”.

* المقال منشور بالإنجليزية في مجلة “جاكوبن” الأمريكية – 24 نوفمبر 2021

المقالات ذات الصلة
- Advertisment -

الأكثر قراءة

أحدث التعليقات