قصاصات من الذكريات بمدينة الفاشر – طقوس ونقوش (آبار حجر قدو؛الكرنقلي وجوز الموية) – (2)
د.مدثر البناني
نواصل الحديث عن أشكال تقديم خدمة المياه بمدينة الفاشر، وفي الحلقة الأولى تم تناول الآبار الجوفية والإرتوازية، وفي هذه الحلقة سيتواصل الحديث عن تلك الفترة وتناول الأشكال التالية:
صهاريج المياه:
كانت لها أحجام وتصاميم مميزة ومحددة بأبعادها المربعة ويتم طلاءها باللونين الأبيض والأسود، ويختلف التصميم عن الصهاريج الحالية والتي لها احجام متوسطة وصغيرة مقارنة بالصهاريج التقليدية ذات الحجم الاكبر وتكون على إرتفاعات متوسطة إلى قصيرة ولها تمديدات بالانابيب الحديدية ذات الأقطار المتوسطة والكبيرة موصلة بحنفيات (مواسير) توزع المياه بالاتجاهات الأربعة، الجزء الأول منها يتم توصيلها بخراطيم المياه (الخراطيش) البلاستيكية و مخصصة لملئ اواني المياه الخاصة بالأفراد (البراميل الحديدية والبلاستيكية) ولكل منزل أو أسرة علامة مميزة وخاصة بكل إناء، ودوماَ يتم الملئ بعد الإصطفاف والأدوار حسب أسبقية الحضور، وهنالك رسوم نظير المياه المستخدمة يتم دفعها من عبر التذاكر الورقية لكل فئة ويتم دفع المبالغ للشخص المشرف على الصهريج وعادةً ما يتخذ موقعا بمدخل الصهريج. الجزء الثاني من الحنفيات مخصصة للأشخاص الذين يمتهنون مهنة بيع المياه المنقولة بواسطة الحيوانات والدواب (الخراجة: بفتح الخاء وفتح وتشديد الراء وفتح الجيم). ولعملية تجمع سكان الاحياء المجاورة لموقع كل صهريج قصص وحكاوي وطرائف وذكريات لا تنسى بدءاً بالاعلان ببدء تدفق المياه وازدياد قراءات عداد الملأ الخاص بالصهريج والذي كان باللون الاصفر وله تدريج معين؛ ومن ثم صياح الاطفال والشباب بصوت عالي (الموية جات….الموية جات) إيذانا واعلانا للجميع (وقتها لا وجود للموبايلات والواتساب واخواتها من التطبيقات) بعدها كل أسرة تقوم بدحرجة البراميل وصولا للصف المخصص للملأ ويكون الجميع منتشياً وفرحاً بهذه اللحظات.
وهذه الصهاريج تدعم شبكة توزيع المياه بالمدينة من خلال توزيعها وتموضعها بأنحاء المدينة المختلفة تلك الفترة، ومن أشهرها، الصهريج الأول موقعه بالجزء الغربي من المدينة بحي أولاد الريف وهو المقابل لمبنى إدارة مياه الشرب، ولا زال يغذي المدينة ويساهم في تعبئة الصهاريج المتحركة (تناكر الموية) ، الصهريج الثاني بالجزء الجنوبي الغربي من المدينة وتحديداً بحي تمباسي ومتاخم لسوق المواشي وسوق (التمباك)، الصهريج الثالث موقعه بالجزء الشمالي الشرقي للمدينة (صهريج التجانية/ الطريفية/ الدبة النايرة) ويخدم هذه الأحياء بالإضافة لاحياء شوبا وخور سيال والفاشر الثانوية وغيرها من الاحياء المحيطة، وهو مجاور لنادي النيل الرياضي العريق بالفاشر وجنوب شرق مدرسة خديجة بنت خويلد (الشمالية ج – بنات) الأساسية وهي من أوائل المدارس الإبتدائية بمدينة الفاشر، وكذلك جنوب شرق (خمسة بيوت) وهي بيوت حكومية عددها (5) ومن هنا أتت التسمية، ذات مساحة وتقسيم وشكل هندسي خاص، عادة ما يسكنه بعض الموظفين وبعض المعلمين المحظوظين ، والصهريج الرابع موقعه بالجزء الشمالي من المدينة ( صهريج ديم سلك) ويخدم الاحياء المتاخمة مثل: ديم سلك، الزيادية، الواحية، شمال الأهلية وغيرها، والصهريج الخامس بالجزء الشمالي الغربي من المدينة (الشرفة/القبة) ويخدم أحياء القبة والشرفة النصر شمال وما جاورها، الصهريج السادس هو صهريج (برنجية/الكفاح) ويخدم أحياء برنجية وحي الكفاح وقشلاق الشرطة وحي القاضي وما جاورها، وموقعه بالقرب من مسجد وخلوة بابكر نهار والد السياسي المعروف د. احمد بابكر نهار، الصهريج السابع هو صهريج حي الجيل (حلة الأنصار) وهو يخدم أحياء الجيل وما جاوره من احياء بجنوب شرق المدينة، والصهريج الثامن موقعه بجنوب الفاشر – حي الثورة جنوب وهو يخدم احياء الثورة جنوب وحي الرديف وما جاوره من أحياء، وسيتم البحث والتقصي والتاكد من من يكبرنا سناً إذا ما كانت هنالك صهاريج أخرى بإتجاهات المدينة المختلفة الأخرى.
هذه الصهاريج كانت ملتقى إجتماعياً للشباب وبعض الكبار والصغار، وحوله يكون هنالك سوق مصغر ( أم سويقو) يتم فيه تداول وبيع بعض المواد الغذائية والمنتجات الغابية ( التفاتيف من نبق وفول مدمس ( فول خراجة)، فول مركب/مفور فول ابونقوي، اللوبيا، التسالي، البطاطس بالشطة، التبش، القرقدان، الجغجغ، الكركرو، الدوم، التبلدي/ القنقليز، السبلي، وغيرها) ويتم توزيع ووصول المياه إليها وفق جدول زمني محدد من قبل إدارة مياه المدن بالفاشر، وهنالك طقوس وإنفعالات تتم من قبل سكان الاحياء المجاورة لموقع الصهريج تختلف باختلاف كل صهريج وموقعه ورواده.
الصهاريج المتحركة (التناكر/ الفنتاس):
وهي عبارة عن السيارات الكبيرة التي تحمل صهاريج المياه (التانكر أو الفنتاس: بضم الفاء وسكون النون وفتح التاء) وتقوم بتوزيع مياه الشرب على أحياء المدينة المختلفة وخاصة الطرفية التي لم تصلها شبكة المياه تلك الفترة. ولديهم جدول توزيع وأيام محددة للوصول لهذه الاحياء، وعادة يتم التوزيع والتفريغ إما بصورة جماعية بحيث يتم تجميع البراميل وأواني المياه الكبيرة في موقع محدد، او التوزيع لكل شخص حسب منزله وموقعه نظير مقابل مادي محدد ومتفق عليه.
أكشاك الموية:
وهي عبارة عن شبكة مصغرة ومحطة لتوزيع المياه للسكان (أكشاك وهو جمع كشك) لها مواقع بمختلف إتجاهات المدينة ومن أشهرها، الواقع بالجزء الجنوبي الغربي من مسجد الشيخ/ عوض الله دفع الله بحي شوبا، و(الكشك) الذي كان موجوداَ بالزاوية والركن الغربي لمقابر ديم سلك أحد أشهر مقابر المدينة، و(كشك) آخر كان موجوداً بالقرب من (دونكي) الشرطة ( البوليس) غرب مدرسة الشيخ إبراهيم إسحق (المدرسة المزدوجة) أول مدرسة أسست بدارفور في العام 1916، و (كشك) آخر كان بجوار بيت الشيخ/ مسعود بالقرب من مخازن وقاية النباتات (سم الجراد) ومن (الأكشاك) المشهورة أيضاً كان موقعه بجوار صيدلية التامين الصحي الآن شمال مدرسة المؤتمر (الشمالية (أ) سابقاً)، وبحي الكفاح/برنجية وتحديداً شرق مدرسة علي السنوسي ( الجنوبية سابقاً) أيضاَ هنالك مواقع أخرى للأكشاك بأجزاء وأحياء المدينة المختلفة تلك الفترة. وهذه الأكشاك تمد سكان الاحياء المجاورين لها والمارين بها، بالمياه من خلال الحنفيات المثبتة، وقد إندثرت وإختفت بمرور الزمن ، وكان لها دور بارز في تقليل الزحام وتوفير المياه لمن ليست لهم القدرة على توصيل الشبكة بمنازلهم، وكانت مرحلة من مراحل خدمات المياه بالمدينة.
الخراجة والكارو:
وهي من الوسائل التقليدية لحمل ونقل المياه من موقع إلى آخر بإستخدام الدواب والحيوانات وعادة تكون من الحمير والأحصنة ( حمار خرج – حصان كارو – حمار كارو) وعادة ما يكون من نوع (الداراوي) وهو الحمار المحلي ، ويتم حمل المياه في أوعية مصنوعة من جلود الماعز والضان (خُرٌج بضم الخاء والراء وسكون الجيم) من قبل المتخصصين في هذه الحرفة (سوق الجلود والمراكيب والمنتجات الجلدية الاخرى مثل الشنط والقرب ) يتم وضعها على الحمير ولها تصميم معين ويتم طلائه بمادة القطران ليحافظ على طراوته ومقاومته للجفاف والعوامل الخارجية الأخرى. و(أخراج الموية) بخلاف (اخراج وجرابات العيش والمواد الأخرى)، وكذلك هنالك القرب ( بكسر القاف وفتح الراء وسكون الباء) وهي جمع قربة ( بكسر القاف وسكون الراء وفتح الباء) ومنها المدينة المشهورة بشرق السودان – خشم القربة. ( فستان الغنماية على رواية الحناكيش واولاد ميكي)، وهو عبارة عن جلد الماعز أوالضان يصنع بطريقة معينة مشابهة (للأخراج) وتستخدم لنقل وترحيل المياه من موقع لآخر وكذلك تستخدم بواسطة أصحاب السيارات ( اللواري والبصات) التي تسافر لمسافات بعيدة ( زوادة الموية) وكذلك التزويد بالماء بصورة شخصية خاصة للذاهبين إلى القرى والفرقان والمزارع وتحمل على الدواب ( الجمال، الحمير) وفي الغالب يكون من قطعتين (جوز قرب)، ونتذكر شكلها المميز والتفريق بينها إن كانت تعود لحيوان ذكر أو أنثى، وملمسها البارد والطرى، وتتميز المياه المحفوظة او المنقولة بها بالبرودة نتيجة تعرضها لتيارات الهواء. وعادة ما يتم إختيار انواع معينة من الحمير للعمل في نقل المياه بالاخراج، تتميز بالقوة والشدة والتحمل والعمل المتواصل طوال النهار ( حمار داراوي)، ويتم تغذيتها بصورة جيدة لتحمل هذا العمل الشاق. وبإسترجاع الذاكرة نستصحب السؤال التقليدي لأصحاب (الخرج) بشان نوعية ومصدر المياه ( مويتك موية دونكي ولا بيار) لأهمية الفرق بينهما، فالاول مصدره مياه عذبة ومن الشبكة الرسمية، والثاني مصدره الآبار الإرتوازية والجوفية (آبار حجر قدو المتعددة وما شابهها من آبار ومن مصادر بير نوفل – بير آدم رجال وغيرها من الآبار المشهورة بالمدينة). وتفريغ المياه كان يتم بالصفائح بطريقة سلسلة وإحترافية فيها تحكم دقيق في كمية المياه المنسكبة وزمن الفتح والإغلاق لعدم إهدار وفقد المياه، و(للأخراج) أحجام مختلقة ( صغيرة – متوسطة – وكبيرة) حسب حجم الحيوان مصدر الجلد ونوع الحيوان المصنوع منه (الخرج). وهنالك ممارسين لهذه المهنة مشهورين بإتجاهات واحياء المدينة المختلفة، وبعضهم يزود المطاعم والكافتريات والمحلات بسوق الفاشر والمواشي، وكانوا يتصفون بالصدق والامانة ومنهم من يكون لديه زبائن راتبين يقوم بالتوزيع لهم. تطور الامر وتم إضافة عربات الكارو التي تجرها الاحصنة او الحمير وإضافة البراميل لها، والاحصنة هي الأغلب تلك الفترة نسبة لطبيعة مدينة الفاشر وتضاريسها ووجود رمال كثيفة وإرتفاعات وإنخفاضات بين الأحياء ( عالي واطي – بالنهار باريس وبالليل باريس ).
الكرنقلي / الكرنكلي والجوز:
من المشاهد التي لا تنسى رؤية الأشخاص الذين يقومون بحمل زوج من الصفائح على اكتافهم (جوز الموية) وكان أغلبهم من الأخوة الجنوبيين، وهذه الصفائح تعلق على قطعة خشبية (عود) بمقاس وسمك محدد وتتدلى بواسطة سلاسل حديدية ( جنازير رفيعة) ولها مقابض ذات أحجام وأشكال تشبه حدوة الحصان، يتم حملها وإمساكها بها، وهي من وسائل وطرق بيع المياه بالمدينة تلك الفترة، ويطلق على طريقة الحمل ( كرنقلي/كرنكلي)، والعبارات المرددة والسؤال المتكرر( الجوز بي كم)، وهذه الصفائح عبارة عن فوارغ بعض المنتجات والمواد الغذائية وغيرها ( إعادة تدوير) ويتم تصنيعها بسوق كان يعرف ب (سوق الحداحيد) بموقعه القديم والمعروف ( شمال الجامع الكبير وشمال شرق زريبة التمباك). وكان هنالك بعض الصبية يقومومون بمشاكسة بائعي المياه بهذه الطريقة من خلال التصويب بالنبال والحجارة ( التنشين على الصفايح) وأحياناً العبث بها او سرقتها، أثناء وضعها للإستراحة وقت الظهيرة. وعادة ما كان يتجمع الممارسين لهذه المهنة بمناطق محددة بالمدينة لتناول الغذاء أو الإستجمام أو تناول بعض المشروبات الكحولية ( بغو/بخو، مريسة، غداء…..) ومن أشهر مواقع التجمع حول الصهاريج بمواقعها المختلفة، الطواحين وماحولها (سوق نفولا) وهو المركز الرئيسي، بالإضافة إلى بعض البيوت الخالية (مزوربة او محوشة يعمل فيها الدمارة او الدماريات) وهم من اهل بعض الفرقان والقرى (القيزان والحلال) المتاخمة للمدينة والمحيطة بها يأتون الي المدينة في كل صيف للعمل ويعودون في فصل الخريف من أجل اللحاق بموسم الزراعة. إنتهت سياحتنا فيما يخص هذه الجزئية ومؤكد هناك تفاصيل وأحداث والكثير من المعلومات والإضافات للمقال وربما التعديل والتصحيح فمرحبا بكل مساهمة واضافة ونقد وتصويب من أجل التوثيق والأرشفة.
ونلتقي بحول الله وقوته في قصاصة أخرى. مع عميق مودتي لكم
د. مدثر البناني
أحدث التعليقات