سيطرة خِطاب الكراهية
نضال عبدالوهاب
لايختلف اثنان أن دولة السُودان وحتى ما قبل اإنفصال الجنوب هي دولة متنوعة ومتعددة (إثنياً وثقافياً ودينياً ولغوياً)، توجد بها أغلبية مُسلمة صحيح، ومكونات يُطلق عليها فرضاً (مجموعات عربية) وقد تنحدر أصولها منهم.
ولكن حتى إذا سلّمنا بذلك فهي لا تعطيهم الحق بصبغ كامل الدولة وإطلاق (دولة السُودان العربية، أو الإسلامية) عليها، كما أنه وبذات القدر مع بقية المكونات الأخرى من أقصى الشرق إلى الغرب إلى الجنوب مروراً بالوسط، لا يُمكن أن يتم دمغ الدولة بكاملها بأنها نوبية أو بيجاوية أو فوراوية أو زغاوية أو أفريقانية وهكذا.
هذا شيء طبيعي غفل عنه وأخطأ الذين تسلموا زُمام أمر البلاد ما بعد استقلالها من أسلافنا في التوصل له وإعلانه وبكُل بساطة، وكان قد وفر ذلك على البلاد الكثير من الدماء والخراب الذي حدث لها، وزاد بسبب ذلك تراكم الغُبن والضغائن في نفوس الكثيرين جداً من الذين أحسوا وشعروا بأنهم أغراب في بلادهم ومواطنين من الدرجات الدنيا فيها.
هذا الأمر كانت ولا تزال له خطورته البالغة علي السُودان كدولة وقُطر، وفي تقديري هذا هو السبب الرئيسي في كُل الحروب التي نتجت ولا تزال تدور، لأنها أعطت المُبرر بأن يزهق السُوداني دم أخيه السُوداني وبكل برود بل وبتلذذ وفخر، وهذا قمة الانحطاط والتدني الأخلاقي والإنساني.
وكان هذا أيضاً نتيجة مُباشرة لسيادة وسيطرة خطاب الكراهية الذي تم الاشتغال عليه ولسنوات عديدة خاصة في عهد نظام الإسلاميين و”الكيزان”، وتلك كانت الحقبة التي انتشرت فيها الحروب علي أساس الدين والعرق والهوية، ولأنها كانت مقصودة ومُخطط له وتعتبر سياسة دولة وليست مُجرد صدفة أو حوادث فردية.
وحتى فصل الجنوب لم يكن له أن يتم إن لم يكن ذلك محاولة للإبقاء على نمط الدولة القديم (أحادية الهوية والثقافة) وفرضه على بقية مكونات ذات الدولة وهم أصحاب حق أصيّل فيها بالتاريخ والجُغرافيا، ومع قدم كُل تلك الشعوب التي عاشت فيه تاريخياً ومُضافاً إليها الهجرات التي تمت كونت هذا المزيج ومنذ عدة قرون تعاقبت عليه حتى وصلنا إلى حدود كُل السُودان الحالي التي عُرفت باسمه واستقلّ السُودان من الاستعمار الإنجليزي عليها.
هنالك حقائق من المهم الاعتراف بها وهي:
١/السُودان ليست دولة ذات هوية واحدة.
٢/السُودان بلد وقُطر مُتعدد ومتنوع دينياً وثقافياً وإثنياً ولغوياً.
٣/السُودان عاشت به تاريخياً شعوب أصيلة ومجموعات أخري مُهاجرة وكونوا معاً السُودان مابعد الاستقلال.
٤/فشل من تولوا زُمام الأمور فيه ما بعد استقلاله في التعامل الصحيح لإدارته وفق تعدده وتنوعه هذا وهو أمر لم يكُن صعباً وقد كان ميسوراً.
٥/كُل الحروب التي نتجت فيه كان نتيجة لاختلال معايير حُسن إدارة تنوعه التي ظللنا نعاني منها حتى اللحظة، التي تمظهرت في الظُلم وتراكمه وتعميّق الفوارق ما بين جميع مواطنيه، لصالح مجموعات سُكانية مُحددة ومناطق هي من استأثرت بالسُلطة والتنمية والثروة والتعليم والصحة وكافة الخدمات.
النتيجة المُباشرة لكل ما سبق وفي الطريق إلى حلول عملية وإيقاف مسيرة كُل الفشل السابق وإنهاء الحروب أو عدم إعطاء أي مُبررات تقود إليها، يبدأ بالتصحيح الشُجاع لها من الجميع، خاصة من بنات وأبناء المناطق والمجموعات العرقية والسُكانية والدينية التي ظفرت بالسيطرة علي السُلطة والثروة والتنمية، والاستيثار والتمتع بكافة الخدمات مُقارنةً بالآخرين معهم في ذات الدولة (السُودان).
مع التسليم الكامل بأن تلك المجموعات ومع تعاقب الأجيال وصولاً لأجيال الثورة لم يكن لهم تاريخياً أي دور مُباشر أو ذنب في وصول البلاد لهذا المُستنقع من الصراع والحروب والتقسيّمات على أساس الدين والعرق والهوية واللغة.
أهمّ ما يُمكن أن نفعله كي نوقف مسيرة الخراب والصراع التي استمرت بعمر السُودان الحديث علي الأقل ولقرابة السبعين سنة منذ إعلان استقلال الدولة هو مُحاصرة ووقف خطاب الكراهية الذي إن استمرّ فلن تتوقف الحروب والصراعات والاقتتال حتى وإن تم تعديل الدستور وعلى الوجه الصحيح والأكمل وتم منح الجميع كافة حقوق المواطنة في دولتنا جميعاً (السُودان).
فأكبر خطر ومُهدد حقيقي لدولتنا في تقديري وهو الذي يُضعفها وينميه ويُغذيه ويشعله أعداؤها وأعداء شعوبها من الداخل والخارج هو سيطرة وانتشار وتفشي الكراهية وخطابها داخل مُجتمعاتنا وبيئاتنا وكافة أنحاء بلادنا، وهو معوق حقيقي لأي بناء للثقة بين كافة مكوناتنا، ومعوق بالتالي لأي حوار بيننا كسُودانيين يقود إلي تصحيح جميع الأخطاء التاريخية فيه وإلي رمي صفحات الماضي والنظر للمُستقبل.
خطاب الكراهية الآن وفي كُل العالم الحديث والمُتطور وخاصة البلدان الديمُقراطية فيه، يُعتبر من الجرائم التي لا مُسامحة فيها وتستحق العقوبات، ولن ينصلح حالنا إلا بتبني اتجاه لا يخدم أعداءنا بنشر خطاب الكراهية وتعميّقه.
وللأسف الشديد ومع التقدم التكنولوجي أصبحت هنالك من الوسائل التي تُزيد في نشره والتأسيس له، ومنه تنطلق كُل الدعاوى العُنصرية والانفصالية والتقسيّمية، ويتم استخدام مُفردات الكراهية حتى في لغة الخطاب السياسِي، وكذلك في الخطابات العادية بيننا كسُودانيّين، وهذا الواقع من الضروري جداً العمل الجاد علي تغيره ومُجاهبته وبكُل قوة وعدم استسهاله، والسيطرة عليه.
وهنالك خطوات عملية في هذا الاتجاه:
١/عدم السماح بتمرير أي خطاب كراهية من أي فرد أو مكون اجتماعي أو سياسِي وإيقافه وعدم نشره.
٢/ضبط لغة الخطاب بين جميع السُودانيين خاصة في دوائر الوعي وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام والقنوات الرسمية التي تزيد فيها رقعة خطاب الكراهية.
٣/التصدي لخطاب الكراهية من كافة القوى السياسِية والثورية والديمُقراطية ومُحاربته، فالقيادة السليمة عليها الدور الأكبر في هذا.
٤/كُل الإدارات والزعامات الأهلية والقبلية يقع عليها أيضاً لعب أدوار عظيّمة لوقف كافة أشكال الخطاب العنصري وخطاب الكراهية داخل مُجتمعاتها..
٥/العمل المُخلص والمُستمر من كُل من يستشعر المسؤولية في بلادنا في مُحاصرة خطابات الكراهية وضرورة التوعية المُباشرة والمُستمرة بذلك.
أخيراً:
إن الإيمان بأهمية خلق واقع جديد للسُودان والسُودانيين يُساعدنا جميعاً في تصحيح كُل أخطاء الماضي ويحتاج إلي إعادة بناء الثقة بيننا كسُودانيين أولاً. وهذا يتطلب النظر للمُستقبل وعدم الانحصار والانكفاء والتقوقع في الماضي بكُل سوءاته وإخفاقاته، وبتحمل المسؤولية الجماعية في التغيير نحو الأفضل لبلادنا وفي وقف وإنهاء كافة الصراعات والحروب وعدم تمكين الأجنبي من بلادنا ولا تمكين أعداء التغيير المعروفين الذين هم أكثر من ينشرون خطابات الكراهية والعُنصرية في بلادنا، ولنتفاءل جميعنا بمستقبل أفضل للسُودان يعمل له الجميع بكُل تصميّم وإرادة ومسؤولية.
أحدث التعليقات