الخميس, مارس 13, 2025
الرئيسيةثقافة وفنونحديث عن «الحديث عن الأشجار»

حديث عن «الحديث عن الأشجار»

 

حديث عن «الحديث عن الأشجار»

 

مأمون الجاك

لسنوات قليلة مضت، ما كان لهذا الفيلم أن يُبصَر في جماعة -وهو الذي تنبني حبكته على صعوبات واجهتها صناعة السينما في السودان في فترة حكم الحركة الإسلامية للبلاد- أما قبل سنتين، في العام 2020 – فإن حشدا من السودانيين أمضوا أمسية الخميس التاسع والعشرين من أكتوبر يطالعون عرض (الحديث عن الأشجار) بحديقة المتحف القومي.

انطفأت ظلال أشجار الحديقة لتضيء شجرة عملاقة وسحرية المكان، آخذة أبصار الجمع لسنوات قليلة مضت، حين كان صانعو الفيلم يكابدون مشاقاً عديدة، من بينها وللمفارقة مشقة إيجاد مكان صالح لعرض أحد الأفلام. السينما بطبعها فن جماعي، في صناعتها وفي استهلاكها، ودور العرض تمثل فضاءً سحريا/ تحويليا، لجماعة تتشارك بالضرورة واقعا، ثم تجيء لتتشارك صورته، لتنبني على إثر ذلك فضاءات بصرية حديثة.

في الفيلم؛ يبحث عدة أشخاص، مخرجون ومهتمون بالسينما، عن مكان ملائم لعرض فيلم، فيما يبحث أحدهم عن فيلم ضائع، كان قد أخرجه في ستينيات القرن الماضي، ويبحث آخر عن موضع لتصوير فيلم قصير، رحلات البحث تلك تتداخل في مجرى الفيلم، فيما يبقى الفيلم الموعود، مرجأً، ليجيء عند النهاية بعرض أحد الأفلام أمام جمهور، وليجد المخرج فيلمه الضائع، ويخرج الآخر فيلمه القصير.

حيلة الفيلم داخل الفيلم، انبنت هاهنا في مجملها على عوائق موضوعة من قبل الدولة، وفي حال كتلك فبانتفاء الظروف الموضوعية ينتفي جزء من الفيلم، ويستحيل وثيقة بصرية- في هذه الحالة الفيلم تسجيلي، ويجد في جوهره تبرير تمسكه بالتأريخ- لكن هذا لم يقلل من قيمته الفنية، كما أن بالفيلم القصير المضمن في الداخل تأخذ الصعوبات طابعا يتعلق بمسائل إبداعية وتخييلية، والفيلم في مجمله يرمز لحال السينما السودانية سابقا، أي في كونها محجوبة ومطمورة.

كطفل يرى وجهه في المرآة للمرة الأولى، كانت انفعالات جمع من المشاهدين لفيلم “الحديث عن الأشجار”، الفيلم الذي يحكي عن استحالة صنع/عرض فيلم في أزمنة النظام السابق، لعداء أيديولوجيا الحركة الإسلامية المعلوم للصورة.

هنالك جملة سحرية تقابلني يوميا، وتذكرني برأي مشهور لميلان كونديرا عن سنوات احتلال روسيا للتشيك وعن الاستعادة المزعجة لتلك السنوات من قبل الشعب ملفوظة في جملة، وبحديث لجاك دريدا عن الحادي عشر من سبتمبر، جملة تصلح كمفتتح لقصة أو رواية:

“في الثلاثين عاما الماضية” ، كأن قائليها تتملكهم السعادة إذ استطاعوا الانفصال/مفارقة زمن ما والتخلص منه، كأنهم ولدوا من جديد، كأن الزمن خطي، وهذه الثلاثون عاما الماضية كمضاء السيف قد أعملت فيهم نصالها، وقذفتهم في تواريخ غير معينة- هذا الاسترجاع يجد مبرره في صراع التأريخ، في كون آخرين ينتمون لتلك الأيديولوجيا يحاولون تزييفه، لتصير تلك الجملة شاهدا على بشاعة تلك الأزمنة وخواءها للحد الذي يسمح بجمعها ووضعها في جملة واحدة، كأن حيواتنا جُعِلت مقياسا لأنظمة الاستبداد، نحن الذين عشنا تلك السنين، الثلاثين عاما، كنا هناك.

المهم عندما تنبني حبكة فيلم ما على ظروف موضوعية -في هذه الحالة الفيلم تسجيلي، ويجد في جوهره تبرير تمسكه بالتأريخ- فإنه ينتفي بانتفاء تلك الظروف، وهذا ما بدا على أوجه المتسرنمين قبالة شاشة عرض في المتحف القومي. تلك الضحكات المشوبة بالأسى أحيانا، تلك التي يطلقها جيل قادم عندما يدرك أن الجيل الذي سبقه قد صارع في سبيل انتزاع حقوق بسيطة، هي الآن ملكه، انتزعها بيده، ماذا؟ هل كانوا يحاولون تحرير العبيد؟ إنهم الآن أحرار.

لا يمكننا مطالبة فيلم وثائقي بالصعود نحو الخيال، إنه وثيقة بصرية، وإن كان موضوع التوثيق مفتقرا للخيال أو كانت ظروفه تصرعه، فهذا مما لا لصانعيه يد فيه.

في الأفلام العربية، كنت مسحورا دوما بالصوت، لا الصورة – العنصر المهمل عند المتلقي أو الممجد في حالة كونه موسيقى- فالصوت الصادر عن عناصر الصورة يمنحها طابعها الواقعي-أي متملكا من كل الحواس- ، الصوت الذي يخاتل وسيطه، يجيء حاضرا أبدا، أما الصورة فهي في مكان آخر.

طري كقطة نائمة، مفككا إلى حد ما، غير مسؤول، كمن خرج من حالة تنويم مغنطيسي، بهذه العبارات يصف رولان بارت لحظة خروجه من السينما، وهذا ما ينبغي أن يصنعه بنا الفيلم.

خشية أن أبدو تعليميا، فلن أعدد الأسباب التي تجعلنا بحاجة للسينما، حوجة الجماعة للصورة، إنها معروفة، ولا حاجة لقولها.

 

المقالات ذات الصلة
- Advertisment -

الأكثر قراءة

أحدث التعليقات