جبراكة نيوز: تقرير- عيسى دفع الله
قدمت (شبكة صيحة) في مؤتمر صحفي الاثنين عبر منصة (زووم) تقريرا عن العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، أوضح إن استيلاء قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023 على ولاية الجزيرة وغرب وشمال سنار، عرض سكانها لصنوف من التعذيب والعنف والفظاعات، وأثّر تأثيراً كبيراً على السودان، لا سِيَّمَا في إعاقة العملية الزراعية وبالتالي الوصول إلى الغذاء، وأسهم في أوضاع المجاعة الحالية. وقد كانت الولاية قبل اجتياحها موطناً لما لا يقل عن 6.5 ملايين شخص، منهم أكثر من 1.5 مليون شخص نزحوا إليها من مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك جنوب دارفور وغربها، وكردفان، والخرطوم التي كانت تشكّل النسبة الأكبر من النازحين.
وكشفت المديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الإفريقي (شبكة صيحة)، هالة الكارب، إن المبادرة وثقت (250) حالة عنف جنسي في جميع أنحاء السودان منذ اندلاع الحرب بينها (75) حالة في ولاية الجزيرة منذ ديسمبر الماضي، بينهن (14) حالة حمل نتيجة للاغتصاب.
وأشار التقرير إلى العديد من أنماط العنف التي تُرتكب في الجزيرة ومناطق ولاية سنار في هذا الوقت – في الجزء الأول من التقرير أشرنا إلى نمطين – حيث تحاول قوات الدعم السريع تعزيز سلطتها.
النمط الثالث:
يماثل إلى حد ما النمط الثاني حيث يحدث في أعقاب استقرار المليشيا في المنطقة، إلا أنه ينطوي على استهداف نساء محددات مثل النساء بائعات الأطعمة والشاي والنساء في المساحات العامة، وهو نمط مصحوب بقدر أقل من التفاوض والتنسيق مع السكان المحليين.، ويبدو أنّ قوات الدعم السريع تشعر في هذه المرحلة بأنّ لديها قدرة أكبر على ممارسة أعمالها دون موافقة السكان المحليين، ومن ثمّ لا تكون بحاجة إلى التفاوض. ولذلك ينطوي هذا النمط على أعمال انتقامية تستهدف العائلات وعمليات اختطاف وزواج القسري أو استهداف نساء بعينهن. وفي إحدى الحالات التي أُبلِغت بها صيحة في الأسبوع الأول من شهر إبريل تعرضت امرأة في ود مدني للاغتصاب تحت تهديد السلاح على يد ثلاثة جنود من قوات الدعم السريع أمام زوجها بعد أن هدد الجنود بقتل زوجها ما لم تخضع لهم. وفي نهاية المطاف، نزحت تلك المرأة مع زوجها إلى سنار في 29 إبريل، حيث طلّقها زوجها في مدينة سنار. ويوضح هذا الاعتداء الطُرق التي يُستخدم بها العنف الجنسي وسيلةً للامتهان وتمزيق النسيج الاجتماعي. مع الأخذ في الاعتبار أن العنف الجنسي يهدف إلى بثّ الرعب في نفوس السكان وجعلهم أكثر خضوعاً للمليشيا فإن استمرار موجات العنف الجنسي تصاحبها متغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة قد تستمر لأجيال عديدة.
إهانة النساء
استهدفت قوات الدعم السريع العاملات في مجال الرعاية الصحية وفي القطاع غير الرسمي بمعدلات أكبر في أنماط العنف داخل ولاية الجزيرة وخارجها. وهذا العنف ذو طبيعة انتهازية إجرامية تعكس بشكل واضح نهج المليشيا في اهانة كرامة النساء وبالتالي ممارسة صنوف من العنف ضدهن؛ أيضاً يعكس هذا النمط في استهداف النساء البائعات تجليات إرث نظام المؤتمر الوطني الذي كان يمارس العنف بانتظام ضد النساء والنساء الفقيرات وبائعات الأطعمة والشاي والنساء في المساحات العامة، وهو النظام المسؤول عن انتاج المليشيات بشكلها الحالي. فالنساء العاملات في القطاع غير الرسمي والعاملات في مجال الرعاية الصحّية يعملن في أماكن عامة، ويتعاملن مع الكثير من الأشخاص على مدار اليوم ويكنّ ظاهرات بدرجة كبيرة.
ووفقاً لشهود عيان، تتعرض بائعات الأطعمة والشاي في أسواق الحصاحيصا والمعيلق والدباسين والمحيريبا لوحشية وانتهاكات قاسية، ويتم إجبارهنّ على تقديم الطعام والشراب مجاناً، مع تقديم الخدمات لجنود المليشيا. وقد كانت هؤلاء البائعات يتعرضن للمضايقة والتعذيب والضرب في الأماكن العامة في الأسواق المحلية إذا عصين أو تجاهلن أوامر جنود قوات الدعم السريع.
وثقّت شبكة صيحة حالات متعددة استهدفت فيها قوات الدعم السريع العاملات في القطاع غير الرسمي، إذ تلقّت صيحة في 17 أبريل خبراً عن حادث وقع في مارس، يشير إلى تعرُّض بائعة شاي تعول أسرتها في الحصاحيصا للتعذيب بالضرب المتواصل والاعتداء عليها بواسطة جنود قوات الدعم السريع على جانب الطريق.
كما رصدت شبكة صيحة حادثة لبائعة شاي تعرّضت للاغتصاب الجماعي في الشارع في 26 فبراير عندما قاومت محاولات أفراد الدعم السريع تم اختطافها وإخفائها قسريًا. كما وردت تقارير عن حالة اغتصاب جماعي لبائعة شاي في الشارع العام وضرب ونهب في 8 مارس في مدينة الحصاحيصا.
وقد نشرت صحيفة الجريدة في 15 مارس 2024، تقريراً ذكر أنّ نقابة الأطباء السودانيين أصدرت بياناً يدين استخدام قوات الدعم السريع للعنف الجنسي وذكر التقرير أنّ قوات الدعم السريع اغتصبت اثنتين من النساء المرافقات لأطفالهن في مستشفى الحصاحيصا للأطفال وممرضة واحدة في المستشفى.
ووفقاً لشهود عيان أدلوا بشهاداتهم في وقت لاحق أن أفرادًا من الدعم السريع اعتدوا جنسيًا على امرأتين جاءتا إلى المستشفى ترافقان مرضى، وعندما حاولت الممرضة التدخل جرى احتجازها واغتصابها هي أيضاً. وفي 25 مارس، تعرّضت عاملة رعاية صحية أخرى للاعتداء والاغتصاب أثناء عودتها من العمل من أحد مرفق للرعاية الصحية في مدينة الحصاحيصا.
استهداف العاملات في مجال الرعاية الصحية على وجه الخصوص يعمل أيضاً على تقليل عدد الأشخاص الذين يطلبون خدمات الرعاية الصحية ومن ثمّ إمكانية تجمع سكان المنطقة في مواقع مركزية وتواصلهم، مما يؤدي إلى فرض أسوار من العزلة والخوف وعدم المقدرة على القيام بأي نوع من المقاومة والاحتجاج، حيث يصبح السكان المحليون غير قادرين على اللجوء إلى المؤسسات للحصول على الخدمات الأساسية ويظلون حبيسي منازلهم وأحياءهم السكنية.
تبُيّن هذه الحالات الضرر المعقد والدائم الذي تسببه أساليب العنف التي تستخدمها قوات الدعم السريع على الضحايا والعائلات والمجتمعات. ومع أنّ الاغتصاب والعنف الجنسي وكذلك الاستغلال الجنسي والاستعباد الجنسي هي الأنماط الرئيسية للعنف ضد النساء والفتيات، فإنّ أنماط الاستغلال الأخرى التي تعرّضت لها النساء اللواتي يتواجدن في الأماكن العامة تشمل الإجبار على الخدمة والطهي لجنود المليشيا وتلبية احتياجاتهم. وقد أفادت لشبكة صيحة نساء فوق سن 70 عاماً، كنّ قبل الحرب قد شكلنّ مجموعة جدات (حبوبات) في جنوب أم درمان، أنّهنّ أُجبِرن على تقديم الخدمات للدعم السريع، وبعد ذلك يجبِرنّ على الرقص في حين كان أفراد الدعم السريع يطلقون الرصاص في الهواء ويضحكون عليهنّ. وتحدثت إحدى المصادر من مدينة ود مدني في الثمانينات من عمرها عن تعرّضها للملاحقة واللمس غير اللائق من جنود الدعم السريع في أثناء سيرها للحصول على الطعام. وفي المناطق الريفية، كثيراً ما تُجبر النساء اللاتي بقينّ في القرى على جني المحاصيل لصالح قوات السريع دون أجر أو مقابل القليل من المال أو الطعام.
العنف الجنسي في الطرق السفرية
تنتشر الانتهاكات ضد النساء والفتيات في حالات السفر، إمّا بمفردهنّ أو في مجموعات. ففي إحدى الحالات التي وثقتها شبكة صيحة، غادرت امرأة تبلغ من العمر 28 عاماً وهي أم لثلاثة أطفال مدينة ود مدني في أواخر فبراير للبحث عن زوجها الجندي في طريق الفاو. ومع أنّ أفراد الأسرة التي تمكنت شبكة صيحة من التواصل معهم لم يكونوا على دراية بتفاصيل ظروف رحلة المرأة، فقد أشاروا إلى أنّ الإصابات التي لحقت بها والأشياء التي ذكرتها عند وصولها إلى مدينة سنار تشير إلى أنّها تعرّضت للتعذيب والاغتصاب الجماعي قبل أن تصل إلى عائلتها في سنار في 3 مارس. وقد أخبرت الأسرة شبكة صيحة أنّه قد حُلِق شعرها بأداة حادّة وأنّها عانت من جروح متعددة وتورُّم في جسدها ودم مع البول. وقد رفضت الضحية أن تتلقى الرعاية الطبية ثُمّ توفيت في 5 مارس 2024. ومع أنّ وفاتها لم تسجل على أنّها حالة انتحار، فقد وصفت شقيقتها، وكذلك الممرضة التي تابعت الحالة، بأنّها حالة انتحار، لأنّ الضحية أعربت عن رغبتها في الموت مرارًا وتفاقمت حالتها الصحية مع رفضها للعلاج والرعاية الطبية.
ومع استمرار العنف في ولاية الجزيرة وشمال سنار تزداد جرائم العنف الجنسي، وقد أشار تقرير سابق لشبكة صيحة صدر في يناير، إلى حالة أربع نساء تعرّضنّ للاغتصاب في طريق المناقل، كنّ قد فررن من مدينة ود مدني في اليوم الثالث لاجتياح قوات الدعم السريع للمدينة في 21 ديسمبر 2023. وبعد مدة وجيزة، في 15 يناير.
نهب والتهجير
استخدمت قوات الدعم السريع بالإضافة إلى ترويع أهالي الجزيرة وإخضاعهم، العنف وسيلةً أساسيّةً لنهب الموارد وتجنيد المزيد من الجنود. فقد قامت قوات الدعم السريع بحملات تجنيد في ولاية الجزيرة، حيث استفادت من نقص الغذاء في التهديد المزدوج بالعنف وحجب الغذاء أو حجب وسائل الحصول على الغذاء إذا لم “توافق” المجتمعات المحلية على تقديم شبابها إلى قوات الدعم السريع للتجنيد، وقد صار ذلك ممكناً إلى حدٍّ ما بسبب نشاط أبو عاقلة كيكل، وهو ضابط سابق في القوات المسلحة السودانية كان مواليًا للبشير وحزب المؤتمر الوطني، وقد ظهر سابقاً في محادثات جوبا للسلام يزعم أنّه يمثّل ولاية الجزيرة. وقد اضطّلع كيكل منذ انضمامه إلى الدعم السريع في أغسطس 2023 بدور حاسم في تمكين الدعم السريع من الوصول إلى أرياف الجزيرة والمجتمعات الزراعية ونهب المدن والمرافق العامة، إضافة إلى الدور الذي لعبه في عسكرة المنطقة وتجنيد أعداد من الشباب لصالح المليشيا.
وفي الوقت نفسه، شنّت قوات الدعم السريع حملةً ممنهجةً لاقتحام المنازل والمرافق المدنية، والبنوك ومؤسسات البنية التحتية التي تم نهبها بشكل منظم، ولا سِيَّمَا في المناطق الحضرية مثل ود مدني. فقد وردت تقارير مطوّلة من شهود عيان لأعمال النهب والعنف. إذ أفاد أحد الشهود بأنّ قوات الدعم السريع اقتحمت منزله وأخبرته أنّهم سيعودون ليلاً “لزيارة بناته خاصّةً”. فخرج هو وبناته الأربع المراهقات ومشوا أكثر من 40 كيلومتراً حتى ينجوا. وأخبرت امرأة تبلغ من العمر 75 عاماً شبكة صيحة أنّها تعرّضت للضربّ المبرّح لأنّ لديها سيارات اقاربها متوقفة في منزلها. طالبها أفراد من قوات الدعم السريع بمفاتيح لتحريك السيارات، ولكون السيارات ملكًا لأقربائها فهي لا تملك مفاتيحها، فعذبوها لأكثر من 24 ساعة وهم يطالبونها بتسليم المفاتيح. وحتى بعد انتهاء التعذيب، عادوا مراراً لمحاولة تحريك السيارات.
ولا يقتصر نهب قوات الدعم السريع على البيوت التي فَرَّ منها سكانها، بل طالُ النهب منذ أواخر شهر إبريل وشهر مايو بيوت الأشخاص الذين لم يغادروا منازلهم. فقد تلقّت شبكة صيحة تقارير تفيد بأنّ أفراد الدعم السريع يداهمون المساكن المأهولة في مدينة ود مدني ويسرقون أيّ شيء ذي قيمة. وتستهدف هذه المداهمات النساء على وجه التحديد لابتزاز أسرهنّ والحصول على مبالغ كبيرة من المال أو الذهب. وتذكر تقارير من أوائل مايو أنّ أفراد الدعم السريع اقتحموا بيوتاً في حي (المدنيين) وحي (الجامع الكبير)، مطالبين النساء بتسليم حليهنّ الذهبية أو أموالهنّ قبل الاعتداء عليهنّ وضربهنّ بوحشية. ومن لا يسلّمن المقتنيات الثمينة في حملات النهب هذه يتعرّضن للتعذيب، الذي يفضي أحياناً إلى الموت، على يد أفراد الدعم السريع، الذين يصرون على أنّ السكان يخفون المقتنيات الثمينة.
عنف عشوائي
ويقترن النهب بتدميرٍ لكل ما هو موجود مما يشير إلى استراتيجية تشريد السكان ونزع أراضيهم ومنازلهم. فقد أفاد شاهد عيان في شمال الجزيرة باستخدام قوات الدعم السريع لأكياس المحاصيل جسراً لعبور قنوات المياه، ليس فقط للسرقة من أصحاب الحواشات، ولكن أيضاً إتلافاً للغذاء وحضاً على تشريد المزارعين ونهب ممتلكاتهم.
وغالباً ما تستمر حملة نهب الممتلكات هذه حتى بعد إجبار السكان على مغادرة منازلهم؛ إذ لا يزالون يتعرضون للهجوم والسرقة أثناء فرارهم بحثاً عن الأمان. وقد تلقّت شبكة صيحة إفادات عن قيام الدعم السريع بمطاردة الحافلات وإيقافها وتفتيشها وإخضاع الركاب للضرب والإذلال عند سرقة ممتلكاتهم، بل وقتلهم في أثناء ذلك.
ففي يوم الأربعاء 15 مايو، نهبت قوات الدعم السريع حافلة متجهة من البشاقرة إلى شندي، وضربت الركاب ضرباً مبرّحاً. وفي أثناء هذا الضرب، أطلق الجنود النار من أسلحتهم وقتلوا سماح متوكل، البالغة من العمر 23 عاماً، من قرية (أم مغد). وقد أفادت وسائل إعلام سودانية بمقتل الفنانة أماني إبراهيم وشقيقتها التوأم اللتان قتلتا برصاص جنود الدعم السريع أثناء سفرهما بالحافلة من رفاعة إلى القضارف بشرق السودان. فحسب ما ورد في الصحف، طاردت قوات الدعم السريع حافلة النقل ثمّ فتحت النار على الركاب عشوائياً، مِمَّا أسفر عن مقتل الفنانة وشقيقتها على الفور وإصابة آخرين. وتمثّل هذه الأحداث نمطاً متكرراً يشير إلى استخدام العنف العشوائي ليس فقط في نهب البيوت، ولكن أيضاً في نهب الأشخاص الفارين.
وقد حشدت المجتمعات المحلية في المناطق التي كانت في السابق جزءاً من مشروع الجزيرة الزراعي جهوداً أكبر لمقاومة هجمات قوات الدعم السريع على قراهم، بما في ذلك تسليح مواطني القرى، إلا أن حجم المقاومة لا يتسق في كل الأحوال مع إمكانات التسليح الكبيرة التي تتمتع بها المليشيا. ففي تلك المناطق لم يؤدِّ النزوح والدمار الناجم عن هجمات قوات الدعم السريع إلى تجريد المزارعين من أراضيهم فحسب، بل أضرَّ أيضاً بالبنية التحتية ذات الأهمية الشديدة لاقتصاد الولاية واقتصاد السودان، مثل أنظمة الريّ، وسرقة التقاوي وتدمير مركز الأبحاث الزراعية، الشيء الذي سيجعل استعادة المجتمع للمنظومة الزراعية أمراً صعباً للغاية، ممّا يسبب مخاطر طويلة الأجل على المزارعين الذين يعيشون من المشروع. هذا وقد ينتج من هذا الدمار للمنظومة الزراعية جراء جرائم الدعم السريع إلى تسريع عمليات تشريد المزارعين ونزع ملكية الأراضي الزراعية من المزارعين التي بدأت بالفعل على مدى السنوات الثلاثين الماضية من خلال الاستيلاء على الأراضي من قبل المؤتمر الوطني وبذل الجهود في إضعاف الحركة النقابية للمزارعين في الجزيرة.
المجاعة
قالت (شبكة صيحة) إن تشريد المزارعين سيتسبب في عواقب أكثر خطورة في جميع أنحاء البلاد فيما يتعلق بانعدام الأمن الغذائي، الذي تفاقم في جميع أنحاء السودان خلال الأشهر الماضية. وقد أثّر اجتياح الدعم السريع لولاية الجزيرة والعنف المستمر، في خلق “فجوة في وفرة محاصيل الحبوب” في جميع أنحاء البلاد؛ إذ لم يتمكن المزارعون من زراعة الحبوب التي لا يقتصر نفعها الغذائي على سكان الجزيرة وحدهم، إنمّا يشمل معظم أنحاء البلاد، ويواجه ما يقرب من ثمانية عشر مليون شخص في جميع أنحاء السودان انعدام الأمن الغذائي الحادّ، مع وجود خمسة ملايين شخص يواجهون خطر المجاعة وحتى المناطق ذات الانتشار الغذائي الأكبر نسبياً تواجه مشكلة ارتفاع الأسعار وصعوبات في الحصول على التغذية الكافية، حيث تعاني معظم ولاية الجزيرة ندرةً غذائيةً ترقى إلى تصنيف “أزمة” وفقاً لتوجيهات النظام المتكامل لتصنيف مراحل الأمن الغذائي.
ومع تفاقم أزمة الغذاء في الجزيرة تصبح النساء والفتيات عرضة على نحو متزايد للاستهداف بالاستغلال الجنسي والإكراه في العمالة. وقد تلقّت شبكة صيحة بالفعل روايات عن نساء وفتيات في الجزيرة يُشترط لحصولهن على الغذاء استعدادهن للسكوت على العنف الجنسي من قبل الدعم السريع. وستزداد هذه الاتجاهات سوءاً كلما صار الغذاء أقل توفراً وصارت المجتمعات أشدّ فقرًا.
عزلة القرى
تظل عملية جمع المعلومات عن الوضع في الجزيرة وغرب سنار مسألة شاقة ومعقدة للغاية بسبب انقطاع الاتصالات وعزلة المناطق الريفية وغياب المنظمات الحقوقية من المنطقة. هذا وتفاقم تضاريس ولاية الجزيرة وغرب سنار من صعوبة التواصل مع الضحايا، حيث ينتشر السكان على نطاق أوسع في البلدات والقرى الصغيرة، في ظل غياب جمعيات المجتمع المدني من تلك المناطق، مما يجعل من مسألة الاستجابة لعنف الدعم السريع وتوثيق ونشر الانتهاكات أمراً عسيراً، كما يصعب الوصول إلى السكان المعرضين للعنف، ومساعدتهم. كما أن غياب خدمات الاتصالات يعني أن التواصل يأخذ زمناً طويلاً، والطريقة الوحيدة التي يمكن استخدامها للاتصال بالإنترنت هي أنظمة الأقمار الصناعية ستارلنك (Starlink)، التي غالباً ما يكون التحكم فيها لقوات الدعم السريع، وهي مكلّفة للغاية؛ إذ تظهر التقديرات الأخيرة أنّ سعر استخدام الإنترنت مدة 10 دقائق يقرب من 3000 جنيه سوداني. وهذا يعني أنّ المعلومات التي تم الإبلاغ عنها مباشرة من داخل ولاية الجزيرة جاءت من أفراد يتجشّمون مخاطر كبيرة ويتحمّلون نفقات باهظة لإيصال هذه المعلومات. وعليه، فإنّ الإبلاغ عن الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، وغالباً ما يتأخر أو لا يحدث على الإطلاق، ممّا يتسبب في وجود شح كبير في المعلومات.
وفضلاً على ذلك، تتفاقم هذه التحديات بسبب أنّ المجتمع المدني في الجزيرة وغرب سنار أقلّ خبرة وتأهباً نسبةً لعدم تلقي التدريب والموارد الكافية. ففي دارفور وجنوب كردفان، احتشد النشطاء ردهاً من الزمن لتعزيز أصواتهم وأصواتهن والإبلاغ عن الانتهاكات بفضل السرديات السياسية والظلامات التاريخية والتفاعل طويل الأمد مع المجتمع الدولي. أمّا سكان الجزيرة وشمال كردفان وأجزاء كثيرة من ولاية النيل الأبيض فليس لديهم سوى آليات قليلة للإبلاغ، وخبرات متواضعة وموارد محدودة في التوثيق والعمل المدني ذلك على الرغم من الانتشار الحالي لجرائم الحرب الخطيرة في تلك المناطق.
ولهذا السبب، يستخدم هذا التقرير مصادر متعددة، وأهمها أنّ شبكة صيحة تعتمد على التقارير الواردة من النازحين مؤخراً من الجزيرة وغرب سنار، الذين يمكنهم التحدث عن الوضع والإدلاء بشهاداتهم. وتتوافق التقارير التي تلقيناها من النازحين مؤخراً مع الحالات التي أبلغت عنها مصادر أخرى من داخل الجزيرة وغرب سنار. وأخيراً، يعتمد هذا التقرير على مواد من مصادر علنية مأخوذة من وسائل التواصل الاجتماعي حقق فيها فريق شبكة صيحة للتأكد من صحة ومصداقية المعلومات. هذا وتشير جميع المعلومات التي جمعتها شبكة صيحة إلى وجود وضع مأساوي؛ إذ يواجه سكان الجزيرة العنف الجنسي الممنهج المرتبط بالنزاعات والتعذيب والنهب في صمت مطبق وعزلة مأساوية.
العدالة والمحاسبة
طالبت (شبكة صيحة) بضرورة دعم البرامج التي تساعد المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق النساء والفتيات وجمعياتهم/هن في ولاية الجزيرة وسنار وفي مختلف ولايات السودان. وبالإضافة إلى توفير الموارد لنشطاء العدالة من المحاميين/ات والناشطين والناشطات.
داعية لتوفير الحماية للمدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان في داخل السودان لضمان بقائهم/ن وقدرتهم/هن على الاستمرار في تقديم الخدمات في ظل صعوبة الظروف الحالية والعنف الدائر وتعرضهم/هن للاتهامات الجزافية والمراقبة والاعتقالات. ويظل من الأهمّية بمكانٍ الاستثمار في الأجيال الجديدة من المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان لمواجهة العسكرة وتطبيع جرائم الحرب، تحديدا جرائم العنف الجنسي.
وقالت إنه توجد حاجة ماسّة لإنشاء نقاط لخدمات الاستجابة العاجلة والمراكز الشاملة الآمنة وعيادات الناسور في القضارف وكسلا، للضحايا اللواتي بحاجة ماسّة إلى الحصول على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية والنفسية والتوثيق.
وأوصت (شبكة صيحة) بضرورة محاسبة أبو عاقلة كيكل وغيره من قادة قوات الدعم السريع المسؤولون بشكل مباشر عن هذه الانتهاكات المروّعة التي تحدث في ولاية الجزيرة محاسبة جنائية وفق محكمة جنائية خاصة يتم تشكيلها تحت سلطة الأمم المتحدة، مثل المحكمة الجنائية الخاصة التي تم تشكيلها في أعقاب مذابح رواندا، للنظر في جرائم الحرب و الفظاعات التي ارتكبها الدعم السريع في ولاية الجزيرة وولايات السودان الأخرى؛ إذ تُظهِر الأدلة بوضوح مسؤوليتهم عن تلك الفظائع وجرائم الحرب.
وحثت البعثة الدولية المستقلة لتقصّي الحقائق في السودان الوصول إلى المزيد من المجتمعات المحلية والمدافعين عن حقوق الإنسان والشهود من الجزيرة وتخصيص برامج توعية خاصة. كما يجب تمكين منظمات حقوق المرأة وحقوق الإنسان التي توثق وترصد انتهاكات حقوق الإنسان، وتدريبها على العمل مع بعثة تقصي الحقائق وغيرها من سلطات التحقيق.
أحدث التعليقات