الأربعاء, مارس 12, 2025
الرئيسيةالعناوين الرئيسيةقراءة نقدية.. «فريق الناظر»: سرد التتابع.. حكائية النفس الطويل

قراءة نقدية.. «فريق الناظر»: سرد التتابع.. حكائية النفس الطويل

 

في التعريف بالسرد في السودان

فريق الناظر: سرد التتابع.. حكائية النفس الطويل

د. إسحق علي محمد

مقدمة:

اشتملت الرواية على عنوان رئيس وعشرة عناوين داخلية، خصص كل عنوان لحكاية داخل دائرة السرد الكبير (فريق الناظر).

بدأت الرواية بعنوان داخلي (خبر)، وهو خبر على صحيفة النبأ الصادرة في الخرطوم بلا تاريخ، وهو خبر غير دقيق كما  أثبت شاهد العيان الذي جاء عنوانا للمقطع الثاني من الحكي؛ (شاهد عيان).

وهكذا يستمر السرد من عناون الى آخر لينتهي بعنوان (نسف المخطط)  ليؤمن الدلالة نفسها ويكشف حبكة النص.

ما يقارب الثلاثين شخصية جسدوا افكار هذا العمل التخييلي الممتع يربطهم المكان (فريق الناظر) وربما الأصل الواحد فهم قبيلة صحراوية بدوية -باستثناء دخيل واحد هو (ود الساير- برز منهم فضيل تور الخلا وهو الناظر وجدّ أصهب احيمر الهلالي الراوي، واللواء جلقام، وحماد السكران وجدية أم عيون.

الفكرة:

النص سرد اجتماعي سياسي يناقش عقل تنظيم الاخوان المسلمين في السودان ابان ثورة الانقاذ وحلم عالمية الثورة الدينية مبرزا دقة التظيم في ارتكاب جرائمه الانسانية واستغلاله لبساطة الناس. “أنت فردٌ مُنظَّم، تنتمي إلى منظومة تعمل بتنسيقٍ عالِ ودقيقٍ في كُلِّ أرجاء الكون، تنظيم له أتباعه المنتشرون في العالم، يُقدِّمون المساعدة والتمويل متى ما طُلب منهم ذلك الهدف الأساسي لهذا التنظيم هنا هو إعادة صياغة المجتمع الذي ننتمي إليه، سنُعيد بناء هذه الأمة وفق تصوُّرنا الذي نريد، لأجل ذلك نستبيح دماء كل من يقف ضد مبادئنا وخططنا،”ص37.

ومن ثم ينفتح النص لافكار شتى في دائرة القضايا الاجتماعية والفلسفية مثل فاعلية الفكر التنظيمي في التغيير الاجتماعي، ومسألة العلاقة بين المدينة والقرية، “كل منا كان يرسم صورة ذهنية للمدينة وفق خياله؛ بيد أننا نتفق على أنها عالم مُدهش ومُثير”ص20.

ودور البيئة في التنشئة الاجتماعية الصحراء مثال لذلك وطبعها للانسان بطابعها، والايديولوجيا ودورها في الفكر وحجية الاقناع. وقضايا اجتماعية أخرى كالاعتقاد في الشيوح “طلب شيخ الضاوي من قرد الطلح أن يأتيه ببولِ بعيرٍ طازج، وبضع شعرات من ذيل ناقة حُبلى، وسبع تمرات مُتساويات الحجم، واسم الفتى واسم أمه”ص26. وغير ذلك.

تقنيات السرد:

استخدم الكاتب تقنية النفس الطويل في سرده من خلال الراوي العليم وهو بطل القصة (اصهب الهلالي)، وهي تقنية أقرب الى تقنية القصة القصيرة في ملاحقة الاحداث عبر استخدام مميز لتبادل الضمائر في الحكي بين الحضور والغياب؛ الحضور في مخاطبة متلق أمامه أو الحديث بلسانه عن نفسه في تداعي نفسي”ها أنت يا ود السائر مثل حمار ملقى في حضن الصحراء”ص16 وهذا خطاب لشخص أمامه وهو ضمير حضور، أو حضور المتكِّلم “وجدتُهم على تلك الحال أثاء بحثي عنهم”ص16. او ضمير الغياب “كانت شفتاه تتمتمان: ماء .. ماء”ص16، وهو الضمير السائد في السرد ويتناسب مع الراوي العليم.

هذا التبادل السلس في استخدام الضمائر في السرد وفي صفحة واحدة وبنفس سردي قصير لا يربك المتلقى وإنما يعطيه مساحة لاستيعاب المشهد كله، ويمكن السارد من متابعة السرد في تلاحق للاحداث مستمر، كأنما هي حيلة خداع ذكية.

ثمة حيلة سردية مهمة وسمت هذا النص وهي استحدام المنلوج الداخلي للراوي في توصيف نفسي لحالته اثناء حدث ما، أو التمهيد لنقلة ما في السرد؛ “ها أنت يا دو الهلالي في عمق الصحراء ال تدري  إلى أين المسير”ص24، وهو يعلم في واقع النص -وليس في واقعه النفسي- أن المسير سوف يكون إلى كهف التدريب، ولكن السارد يتخذها فرصة ليغوص في عالم البطل القديم عبر الذاكرة “كنتَ تمتطي جملك البشاري عابراً هذه الوهاد وتُغنِّي. تُغنِّي ليلاك في الفريق تُنشد الصبابة والهوى. تذكر جدية أم عيون بعد موتها الدرامي فيتحول نشيدك إلى مراثٍ لكل الأحبة الذين غادروا هذه الحياة”ص25. وكذلك في عديد الصفحات انظر: ص26، و37، وغيرها. وهذه الحالة النفسية كأنما هي عربون استعطاف يقدمه السارد للمتلقي خاصة ختم الحديث بعبارة (مراث لكل الاحبة الذين غادروا هذه الحياة) في  إشراك للمتلقي نفسي وحبيب وهو تخدير يترك الباب مشرعا للاستمرار في الحكي في غفلة التقمص النفسي لحالة البطل أو التماهي معه.

احتاج السارد الى داعم في اللغة وأسلوب الحكي لكي لا يحيد عن طريقته المحكمة في النَّفَس الطويل في السرد، والسيطرة على الاحداث وعلى المتلقي على السواء، فوجد ما يمكن تسميته سرد التتابع؛ وهو تقنية سردية تعتمد على اللغة في ايصال الجملة بتكرار الالفاظ نفسها، وانت تجدها سائدة هنا على طريقة (خذ وهات) مثلا لما قسم الكاتب روايته الى عناوين داخلية وتحت كل عنوان وضع تقسيما بالارقام، فإنه لما ينتهي من رقم ويود الانتقال الى رقم آخر يعيد الجملة نفسها كأن يختم بعبارة فريق الناظر في الرقم (1)، ليبدأ بفريق الناظر في الرقم (2). أو بين جزء من النص داخل الترقيم نفسه وجزء آخر: ص15 تنتهي بود السائر وينتهي معها جزء من ترقيم، ثم يبدأ في ص16 بود السائر. وفي ص22 النهاية : “حدث ذلك محض صدفة”. وص23 البداية “محض صدفة قادتني… الخ. وص23، وص24، وكذلك (27، 28) و (38 و39) و (42 و43)، وايفالونا (127 و128)، وغيرها.

الوصف:

درج الكاتب على استخدام هذه التقنية في حدود ضيقة، وهي تقنية كان ستفيده كثيرا في أسلوب النفس السردي الطويل الذي اختاره، ولكنه بخل بها إلا في حالة الاضطرار، ولذلك تجد التقريرة في اسلوب إنشائي جعل بعض اللوحات المهمة في النص باهتة، وحق لها أن تكون مشعة وباهرة مثل لوحة الصحراء، فأنت ترى وصفه ميتا كأنما يستجدي اللغة وهو الخبير بلغة السرد: “الصحراء سيدة الموت ومقبرة الأحلام؛ أحلام العابرين لرمالها وتلالها… الصحراء قاهرةُ الرجال والنساء، الدواب والسيارات… الصحراء عالمي، ومضارب عشيرتي… هذه الصحراء ذرَّات رمالها الناعمة كثبانها التي تبدو للناظر من بعيد مثل تلال أسطورية على الرغم من قسوة طقسها إلا أنني أحبها تَرَعْرَعْتُ بين كثبانها تعلمت صيد الغزلان وبنات آوى وكل حيوان رماه قدره أمامي… هذه البِيد الحبيبة عُدتُّ إليها بعد غيبة” ص13، 14. ولا حتى الاستنجاد بلفظة غريبة (البيد) سوف يضخ حياة في هذه الصورة. وهي منظر طبيعي تستطيع اللغة أن تسعفه بمخزونها.

ولكنه ربما استفاد من قراءاته في رسم الشخصيات فهو يضع الاطار العام للشخصية، المجمل المعنوي ويربط ذلك بالمتلقي ليشفع له اختيار الالفاظ في مخاطبة أفق التوقع لديه، ثم يأتي بالوصف الذي يفصل المجمل “شخصٌ هيئته مُثيرة للضحك والسخرية (اطار عام ومجمل معنوي)، كان قصيراً حتى يكاد أن يُلامس الأرض، يداه طويلتان لا تتناسبان مع قامته القصيرة، يمشي على أمشاطه كمن يستعدُّ للقفز، (تفصيل المجمل، وتبدو السخرية واثارة الضحك في خيال المتلقي وصورة القرد) يبتسم على الدوام كأنما يتباهى بأسنانه الناصعة المُتراصَّة بعناية، والتي تضيء وجهه الأسود (تركيز على الاسنان في ثلاث صفات يحمل المتلقي الى خاتمة الوصف وصف المرح المبررة سلفا في الوصف، يرتدي بنطالاً وقميصاً من الجينز، (لفت النظر إلى كوهه انسانا) يبدو نشطاً ومرحاً” ص32. صورة معنوية تؤكد انسانيته وحميميته ليمهد للحكي، ويصور كيف استقبلهم بود …. الخ. “قال مُرحِّباً بنا:  مرحباً بكم في كهف التدريب. وانظر ص33 صورة الكهف.

الحوار:

لم يحضر فاعلا في النص لأن السارد مشغول بالاحداث وملاحقتها، في اصرار يدفعك إلى زرد النص في لقمة واحدة. في ص20 ظهر أول حوار وهو مقتضب حشد فيه الكاتب كل ما يؤطر صورة البادية في ذهن المتلقي وفي لغة مكثفة حملت علامات الثقافة المحلية، ختمها بمقطع غنائي للحكامة عشة المنقة. وفي ص36 حوار عرضه التعريف بمهمة البطل فيه بعض التطويل يتناسب مع فكرة النص التي تؤمن نقل المعلومة انسجاما مع راويها العليم.  ثم حوار التاجر الذي جاء خاطبا ص48، وفيه شبهة استطراد.

في مقطع ايفالونا (128 -140) حضر الحوار تقنية مهمة وقد فرض النص ذلك كونه يتحدث عن امرأة اجنبية وقد وفق الكاتب في استخدام الحوار في هذا المقطع مطعِّما به اسلوب التشويق في الوقوف على التفاصيل بلسان ايفلونا فهذا بطبيعة الحال محبب للمستمعين داخل النص وللمتلقي بطبيعة الحال. ولا تخفى علاقة الحوار المتضمِّن بالضرورة للفعل قال وقلت على طريقة (هات وخذ) آنفة الذكر.

الجنس:

كعادته في هذا العمل خالف الكاتب افق توقع القارئ، فقد جاء الجنس لمحة عابرة في سياق تذكُّر ص22 عندما تلصص البطل على عروسين في مخدعهما، وكما قال هو “محض صدفة”.

وجاءت اللغة علامة لثقافة البدو (خيمة، زريبة، بهائم، صفير الريح). ولم تخلو الصورة من حسية بدت مقصودة ” استوقفتني أصوات مُتباينة: لهاث وتأوُّه، أنينٌ ورجاء، صريرٌ يخفت ثم يعلو. لا أدري  كم من الوقت وقفتُ ليلتها، ولكنَّني تحرَّكتُ مُبتعداً.. خَجِلاً بعد أن شعرت بسخونة السائل اللزج يسيل بين فخذي”. لا مجال؛ رغم تكثيف الصورة في مفردات تحمل دلالات الصوت والحركة فان التركيز ينصرف الى الفعل يعززه خروج السائل كأنما نتيحة ايحاء بين توالي المفردات والحركة الناتجة من فعل الجنس. وفي الوقت ذاته توحي باستعجال السارد للخروج من ورطة ربما أدخل نفسه فيها.

ولما كانت فكرة النص تتعلق بتنظيم الاخوان المسلمين فان السارد اختار اسم البطل (أصهب) ودلالة اللون مهمة هنا وهو لون غير مستقل ودلالته ليست اصيلة فضلا عن المعنى المكتسب في الثقافة وهو عدم الوضوح في كل شيء ومن ثم الخلو من موقف ربما تناسب مع فكرة السارد عن تنظيم الاخوان كونه تنظيما أصهب. والمتلقي يتوقع ان ينتهز الكاتب الفرصة ويعرض فضائح المنتمين لهذا التنظيم من خلال مغامرات البطل (أصهب). ولكنه اكتفي فقط باشارة عابرة حتى في علاقته ببطة في النزل، ص69، ومع ايفالونا مع السكران ختم المشهد بفعل صادم كفيل بان يعيد المتلقي الى وعيه ” كانت بين أحضاني، عارية إلا من تنورة صغيرة تستر وسطها، أداعب خصلات شعرها، أُقبِّلها، ألثم ثديها، أُداعب حلمتيها بطرف لساني، أمصُّهما، أُمرِّرُ أناملي فوق تقاطيع جسدها المثير. تتأوَّه إيفا بين أحضاني.  كنت أتوقَّع سلوكاً أنثويا مُانعاً عندما سحبتُ يدي إلى أسفل.. ولكنني لم أتوقع أبداً أن أنال صفعة دوَّى صداها في فراغ الغرفة المُعتم”. ص134. الصفعة علامة رفض لفعل مرفوض.

 

المقالات ذات الصلة
- Advertisment -

الأكثر قراءة

أحدث التعليقات