جبراكة نيوز: تقرير – فريق التحرير
في خضم المعارك التي كانت تدور في ضاحية أمبدة بأمدرمان بين كتائب من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فاجأ المخاض السيدة “م. س”. لم يكن منزلها بعيدا عن موقع الاشتبكات، زوجها ووالدتها فضلا الانتظار ريثما تهدأ أصوات الرصاص قبل أن ينقلاها إلى أقرب مستشفى، أو مستوصف صحي، أو حتى قابلة تسكن في الجوار. صبرت “م. س” على الألم أكثر من ست ساعات حسبما ذكر زوجها العامل “ف”.
ح”، وقال في إفادته لـ”جبراكة نيوز” “حين سكت الرصاص حملناها وخرجنا مسرعين، لكن قبل أن نجتاز شارع الأسفلت المجاور للمنزل انتاشتنا رصاصة قناص ولم تصب إلا زوجتي لتقضي عليها في الحال هي والجنين الذي لم ير النور”.
مع اندلاع الحرب في السودان في الخامس عشر من أبريل 2023 كانت عدد النساء الحوامل حوالى 300 ألف امرأة حامل في العاصمة الخرطوم وحدها، بينهن نحو 24 ألف على وشك الولادة، منهن من نجت بعد اشتداد المعارك ومنهن من قلتها الرصاص أو تدهور الحالة الصحية مثلما حدث للسيدة “م. س” في ضاحية أمبدة بأمدرمان، إذ قتلها الرصاص متآمرا مع تأخر الحالة وألم المخاض.
في ولاية جنوب دارفور بغرب السودان “تموت النساء الحوامل والأطفال بأعداد مروعة”، وتعد الولاية “أسوأ حالات الطوارئ المتعلقة بصحة الأم والطفل”.
بهذا التقديم المأساوي لخصت منظمة أطباء بلا حدود في شهر سبتمبر الماضي، الوضع الصحي للأمهات والأطفال في جنوب دارفور، الولاية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع منذ اكتوبر 2023، وشهدت توقفا تاما للمرافق الصحية منذ حينها، كما تشهد هجمات متكررة وعنيفة لطيران الجيش السوداني، مع حالة من السيولة الأمنية وارتفاع متزايد في حالات الانفلات الأمني.
إحدى الناجيات من تبعات الحرب في دارفور، تقول “لقد كانت أسوأ أشهر عشتها في حياتي خلال فترة الحمل”. هكذا تبدأ أمل يحيى قصتها مع النزوح واللجوء بعد اندلاع حرب السودان في الخامس عشر من أبريل العام الماضي، وذلك بعد زواجها بأشهر قليلة.
وتضيف لـ”جبراكة نيوز” “خرجت من مدينة زالنجي بولاية وسط دارفور عندما اشتد القتال بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع متجهة إلى مدينة نيالا التي وصلناها بعد 19 ساعة، لأننا سلكنا طريقًا آخر غير الرئيسي خوفا من المتحاربين، لكن لم يطل الأمر بنا إذ لحقنا القتال هناك في نيالا أواخر أكتوبر 2023، فخرجنا مرة أخرى متجهين إلى الطريق الذي يؤدي إلى دولة جنوب السودان، ولم أكن أعرف وقتها إنني حامل”.
جنوب دارفور
بحسب تقرير حديث لمنظمة أطباء بلا حدود، فإن عدد وفيات الأمهات في مستشفيين فقط في ولاية جنوب دارفور خلال شهري يناير وأغسطس من العام 2024 يزيد على 7% من العدد الإجمالي لوفيات الأمهات في جميع مرافق المنظمة في جميع أنحاء العالم في عام 2023.
ويقول التقرير إنه خلال الفترة من يناير إلى أغسطس حدثت 46 حالة وفاة للأمهات في مستشفيات نيالا التعليمية ومستشفى كاس الريفي، إذ تقدم فرق المنظمة الرعاية التوليدية وغيرها من الخدمات.
التقارير الرسمية لوزارة الصحة السودانية، قبل اندلاع الحرب، كانت تشير إلى ارتفاع حاد في معدل وفيات النساء الحوامل، مشيرة إلى أنه الأعلى المسجل عالميا. ووفقا لإحصاءات الوزارة فمن بين كل 10 آلاف حالة ولادة في البلاد هناك 100 حالة وفاة.
هذا الوضع، بلا شك، تفاقم بعد اندلاع الحرب وخروج النظام الصحي بأكمله من الخدمة، وتوقف ما يزيد عن 100 مستشفى عن العمل بشكل تام.
تدهور الرعاية الصحية
الطبيبة وخبيرة الصحة الإنجابية، مروة تاج الدين، ذكرت إن النزاعات المسلحة والنزوح يؤثران على النظام الصحي وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية والاحتياجات الإنجابية، إذ تكون هناك صعوبة في الحصول على موانع الحمل فيما يتعلق بتنظيم الأسرة، وعادة في هذه الحالات يحدث حمل غير مخطط له أو نتيجة لاغتصابات واعتداءات جنسية.
وتضيف مروة في إفادتها لـ”جبراكة نيوز”، إن عملية الولادة تصعب في حالات الحروب والنزاعات بسبب خروج معظم المستشفيات والمرافق الصحية عن الخدمة وعدم توفر القابلات والأطباء للتدخل في الحالات الطارئة خاصة في حالات الولادة القيصرية، فترتفع نسبة وفيات الأمهات لصعوبة حصولهن على الرعاية المطلوبة أثناء الحمل الولادة.
وتتابع خبيرة الصحة الإنجابية في إفادتها بقولها “عدم الوصول إلى الغذاء السليم والفايتمينات والمكملات الغذائية قد يسبب للحوامل سوء التغذية والانيميا، وقد توثر تلك الأمراض على الجنين ويولد بوزن أقل من الوزن الطبيعي، أي أقل من واحد ونصف الكيلو، وقد يؤثر ذلك على حياته، ومن الممكن أن يموت الجنين في الرحم.
وتقول: أيضا من الممكن ان تحدث الولادة مبكرًا جدًا، وهذا يؤثر على فرص الجنين للنجاة بحياته، أما إذ أجريت عملية الولادة في غرفة غير مجهزة وغير نظيفة وبأدوات معقمة قد تصاب الأم بالالتهابات، ففرصة تعرضها لذلك كبيرة جدا بسبب ضعف مناعتها خلال فترة الحمل، وقد تحدث لها أيضا التهابات فطرية ونزيف حاد، وعدم التدخل بصورة فورية لايقاف النزيف قد يؤدي الى وفاة الام.
معسكرات اللجوء
تتابع أمل سرد قصتها مع النزوح والحمل وتقول: لقد كانت الحياة صعبة جدا داخل معسكرات اللجوء في دولة جنوب السودان التي لجأنا إليها بعد خروجنا من نيالا. لم أستطع الصمود وأحسست بالانهيار، فقررنا الانتقال إلى دولة أوغندا المجاورة كلاجئين.
وتقول: أكملت أشهر فترة الحمل في كمبالا، وأثناء الولادة تعسرت بسبب الختان الذي تعرضت له في صغري بالسودان. وتشرح حالتها قائلة: هنالك الكثير من الدول التي لا تجري عملية الختان منها دولة أوغندا، لذلك تلد النساء الأوغنديات بكل يسر، كما أن القابلات هناك لا يعرفن التعامل مع النساء المختونات، فما كان لنا إلا أن نجد اختصاصي نساء وتوليد سوداني الجنسية، وتلك عملية أخرى في البحث مع ارتفاع التكاليف المالية”.
الولادات المبكرة
تواصل الدكتورة مروة في استعراض المعاناة التي واجهت النساء السودانيات بعد اندلاع الحرب، وتقول إن كمية المشاهد الصادمة والأثر النفسي وإجهاد النزوح جراء المشي لمسافات طويلة قد يتسبب في إجهاض الجنين أو التعرض للولادة المبكرة أي قبل إتمام مدة فترة الحمل.
وفي هذا السياق تحكي السيدة دار السلام قصتها وتقول لـ”جبراكة نيوز” “لقد نزحت من الخرطوم بعد اشتداد القتال إلى مدينة مدني بولاية الجزيرة، وعندما اشتد الحصار عليها بواسطة قوات الدعم السريع كنت في شهري السابع من الحمل، ومع ارتفاع حدة القتال جاءني ألم الولادة وأنا لم أتمم أشهر الحمل بعد.
وتضيف: وضعت في المستشفى خلال ظروف سيئة جدًا، لم تكن طفلتي بصحة جيدة وكانت تحتاج إلى الأوكسجين. وضعوها في الحضانة لمدة ثلاثة أيام ومع قطوعات الكهرباء المتكررة وعدم مقدرتنا على توفير الأوكسجين فقدت مولودتي.
الآثار النفسية
الاختصاصية النفسية شذى بريمة تحدثت لـ”جبراكة نيوز” عن الآثار النفسية للحروب على النساء، لاسيما الحوامل منهن، وقالت “في فترة الحروب تحدث الكثير من الحركة جراء النزوح، فتواجه النساء الكثير من الآثار الجسدية والنفسية المدمرة، وأولها الصدمة النفسية أو التروما، إذ تزداد أحاسيس الخوف والقلق على سلامتهن وسلامة الجنين في كل شهور الحمل.
وتتابع: الحياة في ظل القصف والمعارك التي من حولهن إذا لم يخرجن أو إذا خرجن وكمية العنف الذي قد يتعرضن له في الطريق سواء أكان جسديًا أو نفسيًا أثناء النزوح والشعور بالعجز والاكتئاب نتيجة لفقدان الأمن والاستقرار، وتوقع رحلة نزوح أخرى في اي لحظة، إضافة إلى سوء التغذية والحرمان من الرعاية الصحية للجنين، كل هذا قد يعرضهن للولادة المبكرة والإجهاض بسبب الحركة غير المستقرة، كما قد يتعرضن إلى صعوبات اجتماعية مع تكرار حركة التنقل من مكان إلى آخر، إضافة فقدان الدعم الأسري والمجتمعي بسبب تفرق الناس في أماكن مختلفة ومتباعدة.
وتؤكد شذى بريمة: كلها ضغوط نفسية لا تحتمل قد تؤذي الأم والجنين، وفي حالات كثيرة قد نفقد الاثنين معًا، أو أحدهما. وكل هذا قد يسبب للمرأة الحامل، وهي حالة خاصة في الوضع الطبيعي، انهيارًا عصبيًا وتدهورًا تامًا في حالتها النفسية.
أزمة الفوط الصحية
انعدام الفوط الصحية وكل مستلزمات النساء والفتيات وصعوبة الحصول عليها بسبب ظروف الحرب وجراء ارتفاع الأسعار يسبب للنساء أزمات نفسية وصحية حادة. هكذا تحدثت فاطمة – اسم مستعار – وقالت لـ”جبراكة نيوز” “لقد نزحنا من ولاية الخرطوم إلى ولاية الجزيرة وحاليًا نحن في إحدى قرى مدينة المناقل.
وتضيف “في هذه القرية تستخدم الفتيات والنساء الأقمشة العادية بدلًا عن الفوط الصحية بسبب ارتفاع أسعارها، فسعر الفوطة الصحية الجيدة وصل إلى ما يقارب الـ 5 آلاف جنيه سوداني، أما النوع الردئ فوصل سعره إلى ما يقارب الـ4 آلاف وخمسمئة جنيه، لهذا لجأت نساء القرية إلى استخدام الأقمشة.
وتبدي فاطمة تأثرها وأسفها وهي تضيف: لكن هذه الأقمشة تستخدم لوقت طويل ويعاد استخدامها بعد غسلها مرة أخرى مما قد يعرض النساء للأمراض في ظل ارتفاع أسعار الأدوية وانعدامها.
وتقول فاطمة: النساء الحوامل بالمنطقة أصبحن يفضلن الولادة في المنزل مع القابلة بدلًا من الذهاب إلى المشفي – المركز الصحي الذي ارتفعت تكاليفه وتكاليف النقل والمواصلات، كما قد تتعرض الحامل في الطريق إلى نزيف أو حالة طارئة بسبب بعد المستشفيات.
شرق الجزيرة
بعد اجتياح قوات الدعم السريع لمناطق شرق الجزيرة في سبتمبر الماضي، فر آلالف النازحين من قراهم راجلين قاطعين مئات الكيلومترات باتجاه المناطق الآمنة في شرق وشمال البلاد.
خلال رحلة النزوح الطويلة هذه فقدت عشرات النساء الحوال أجنتهن جراء الاجهاد والجوع والعطش. من بينهن السيدة “ح. ع” التي تحدثت لـ”جبراكة نيوز”، من مأواها المؤقت داخل مدرسة أعدت للنازحين في مدينة القضارف، وقالت: “كنت في شهري السابع حين اجتاحت الدعم السريع منطقتنا، خرجنا فزعين وهربنا صوب الطريق، لم نتوفر على مركبات أو حتى دواب، لذا مضينا في طريقنا راجلين لمسافات طويلة، في البداية لم أكن أشعر بالتعب، ربما بسبب الخوف ومحاولتي الهروب والنجاة بأي شكل، إلى أن أحسست فجأة بآثار النزيف وبالأوجاع الحادة، انهرت على الأرض في خلاء موحش ومظلم وهناك أجهضت جنيني وكدت أن أموت أنا نفسي لولا أن غيض الله عمرا جديدا.
بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، ذكرت في آخر تقاريرها، أن النساء والفتيات يتعرضن بشكل نمطي للعنف الجنسي واسع النطاق والاغتصاب الجماعي والاختطاف واحتجاز أشبه بالعبودية الجنسية.
وحذرت الأمم المتحدة من عنف جنسي مستشر “وبائي” تتعرض له النساء السودانيات. وقالت إن نطاق هذه الاعتداءات الجنسية “غير مقبول”.
أمل يحيى تقول في ختام إفادتها لـ”جبراكة نيوز”، إنها رغم المعاناة والآلام التي واجهتها خلال فترة حملها، إلا أنها سعيدة الآن، فهي وطفلتها سليمتان وبصحة جيدة. مبدية أسفها وحزنها للكثيرات اللائي حدث لهن إجهاض غير مرغوب فيه أو تعرضن لمشاكل صحية ونفسية مؤلمة.
أحدث التعليقات