الأربعاء, مارس 12, 2025
الرئيسيةمقالاتالسودانيون والوعي المزيف/ بروفيسور/ محمد احمد نور علي إمام

السودانيون والوعي المزيف/ بروفيسور/ محمد احمد نور علي إمام

السودانيون والوعي المزيف

بروفيسور/ محمد احمد نور علي إمام

يشهد التاريخ الاجتماعي الحديث للدولة السودانية، بأن الشخصية السودانية تتميز بسمات معينة مثل الكرم، الطيبة، الامانة، الشجاعة و مسالم فى نظر الكثير من شعوب دول الجوار العربي- الإفريقي.

ويرجع ذلك الي بساطة وصفاء المجتمع السودانى فى بدايات الاستقلال وقوة النطام التعليمي والخدمة المدنية عند خروج المستعمر وحتي أوائل السبعينيات القرن الماضي وايضا طبيعة تلك المجتمعات خاصة الخليجية.

وبالتالي ينظر الي الشخصية السودانية كشخصية مثالية وعبقرية فى بعض المجالات و نالت الاحترام الاجتماعي والثقافي. وساعده فى ذلك بعض الأنماط الثقافية والاجتماعية التي تتميز  وتنفرد بها المجتمع السوداني (علاقات إجتماعية مترابطة ومتعاونة خاصة فى الخارج) والزيارات الجماعية فى بعض المناسبات الاجتماعية والقومية.

هذه المظاهر والسمات رغم انها تتميز بها الشخصية السودانية الا انها ليست لديها امتدادات وتاثيرات قومية وطنية وبالتالي لم تنعكس علي الممارسة الفعلية علي المستوى المحلي و لصالح الوطن. وبالتالى ما مدى صحة هذه السمات وهل الشعب السوداني يعي ويدرك بهذه السمات ؟؟

الوعي هو حالة من حالات العقل والذي تجسد فى العملية الذهنية التي تجعل الانسان يدرك الواقع الذي يعيشه بكل معطياته وتجلياته بدون تسويف، وبناءا عليه يعيش حياته بصورة طبيعية. الوعي قد يكون وعياً حقيقياً بطبيعة القضايا المختلفة المطروحة حول الإنسان.

إلّا أنّ الوعي قد يكون وعياَ مُضللاً (زائفاً) فالوعي الزائف هو ذلك الوعي الذي لم يدرك الأمور على حقيقتها التي تجري عليها، مما سيجعل حكمه على مختلف القضايا والأمور التي تجري من حوله حكماً خاطئاً ولا يستطع مقاربة عين الصواب، وبالتالي ماينجم عنه من قرارات تكون خاطئة او كارثية خاصة فيما يخص امور الوطن و الشعب.

لدي علماء الإجتماع (الماركسيون) يعرف الوعي الزائف بـ (الطبقي) مثل أن يتبني العامل ــ مثلاً ــ و يدافع عن فكر وممارسات النظام الرأسمالي وبذلك يقف ضد مصالحه الطبقية. ومن العوامل الأخرى التي تؤثّر في وعي الإنسان بشكل عام هي: التعليم والمؤسسات الدينيّة؛ خاصة في نظام الدولة الثيوقراطية، حيث إنّ هذه المؤسّسات تتجمّع مع بعضها البعض لتشكّل الوعي الذي قد يكون زائفاً وقد يكون حقيقيا.

العوامل التى ساهمت فى بروز الشخصية السودانية فى المجتمعات التى هاجروا اليها فى أوائل السبعينيات  القرن الماضى خاصة فى دول الخليج العربي.

أولا: تتمثل فى بساطة وصفاء المجتمع السودانى نفسه مع بدايات االاستقلال وسيطرة مشاعر الوحدة الوطنية ومحاولة التفاف حول المبادي الوطنية والكفاح من اجل الإستقلال، هذه الصورة عند عامة الشعب السودانى كانت صادقة عند خروج المستعمر على أمل ان يتحقق الاستقلال الحقيقى عبر بناء دولة على أسس المواطنة.

ثانيا: حداثة وتطور تلك المجتمعات والتي كانت فى بداية نهضتها وإكتشاف مواردها النفطية وبطبيعة الحال تتميز هذه المجتمعات بقلة عدد السكان وحتى التطور التعليمي فى تلك الفترة كانت أدنى من ما هو مطلوب للنهوض بالتنمية وبالتالى إستعانت بالخبرات السودانية فى تأسيس أنظمة الدولة الحديثة المبنية على الموارد الهائلة المتاحة مقارنة بعدد سكانها.

ثالثا: قوة النظام التعليمى السوداني فى تلك الفترة مقرونة بوجود نظام للخدمة المدنية المؤسسة بصورة جيدة وغير متاحة فى كثير من دول الجوار العربي والافريقى مما ساعد فى تخريج وتوفير كفاءات علمية وخبرات عالية فى مجالات العلمية المختلفة وفى ميادين الخدمة المدنية. وبالتالى عملت دول الخليج علي جذب الكوادر الاكاديمية المؤهلة وموظفي الخدمة المدنية المدربة من السودان لتأسيس وبناء دول الخليج الناشئة وخاصة الامارات العربية المتحدة، السعودية، اليمن وسلطنة عمان وغيرهم من دول الخليج العربي ولا حقا ليبيا.

مع ذلك كان عند النخب والطبقة السياسية وجماعات النفوذ الاقتصادى والاجتماعى لها أهداف أحرى وهى السيطرة على مراكز القوى السياسية والاقتصادية فى البلاد لصالحها والهيمنة عليها وتوريثها لمجموعات محددة لضمان إستمرايرية السيطرة على البلاد سياسيا واقتصاديا من قبيل الاستقلال.

وبالتالى استمرت هذه السيطرة حتي بعد الاستقلال مما أدي الى تهميش أجزاء واسعة من البلاد وزرع لبنة الصراعات والنزاعات التى أدت الى ما هو عليه الان.

حتي قبيل ثورة ديسمبر 2018- ابريل 2019 كانت فى ذاكرة الشعب السوداني والشعوب الاخري المجاورة بانه شعب طيب ومسالم وكريم وغير ذلك من الصفات الحميدة. لكن باندلاع ثورة ديسمبر – ابريل وسقوط حكومة المؤتمر الوطني والمتحالفين معها التي استمرت لمدة ثلاثين عاماً وما نتجت عنها من التناقضات وصراعات حول السلطة بين الطبقة السياسية المتطلعة والمتعطشة للسلطة وجنرالات الجيش بما فيهم قيادات قوات الدعم السريع.

تجربة الفترة الانتقالية التي إنتهت بإنقلاب أكتوبر 2021 بواسطة جنرالات الجيش بما فيهم حميدتي وإعتقال معظم قادة الاحزاب السياسية المشاركة فى الحكم بما فيهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك. قد صاحبت الفترة الانتقالية مظاهرات شعبية متتالية ورد الفعل العنيف من قبل الشرطة والاجهزة الامنية الاخري خاصة بعد أكتوبر 2021، ولدت العنف والعنف المضاد المميت والمدمر فى بعض الاحيان.

إستخدام العنف والقوة المفرطة، الاعتقالات والتعذيب وحتي القتل فى بعض الاحيان قد أنتجت العداء الصافر تجاه كل الاجهزة الامنية بما فيها القوات المسلحة، كما صاحبت ممارسات التخريب والتدمير للممتلكات العامة والخاصة بشكل واسع. هذه الممارسات كشفت عمق الضغاين والاحساس بالظلم المبطن لدي بعض فيئات المجتمع تجاه الاخر.

وهذه الممارسات التخريبية بدات بصورة واضحة مع بداية حرب ابريل 2023 بواسطة قوات الدعم السريع من كسر البنوك ونهبها وتخريبها وإمتدت الى الاسواق والمحلات التجارية ومن ثم المصانع والشركات العامة والخاصة وإنتهاءا بمنازل المواطنين.

إستغلت بعض فيئات المجتمع هذه الاجواء وبدات تمارس أعمال النهب والسلب للممتلكات العامة والخاصة جنبا الى جنب مع قوات الدعم السريع وهي مظاهر غريبة وغير متعارفة فى تاريخ الصراعات فى السودان. هذه الممارسات كشفت أيضا عمق أزمة غياب العدالة الاجتماعية والمساواة بين فئات المجتمع.

عملية الاحساس بالاخر وقبوله وإعلاء مشاعر الوطن والوطنية فعلا وممارسة تبدا فى مرحلة مبكرة من حياة الفرد ومن خلال مراحل التنشئة الاجتماعية المختلفة بما فيها المدرسة والجامعة ومكان العمل مما يساعد علي ترسيخ مفاهيم وقيم الوطن والوطنية. ولكن عندما تغيب قيمة الوطن والاحساس به من اهتمامات الجميع عندئذ تهان كرامة الانسانية والوطن وهو ما نراه امامنا اليوم من انتهاكات فى حق كرامة الانسان السودانى والوطن نفسه.

الذين فروا من ويلات الحرب ولجاوا الي دول الجوار، عرفوا ما معني قيمة الوطن خاصة عند وصول نقاط العبور مثل ميناء حلفاء و ارقين لدخول الى مصر، ومعبر القلابات عند الدخول الى اثيوبيا، والنقاط الاخرى مع جنوب السودان، تشاد وليبيا. ان التطور الطبيعي للمجتمع السوداني خاصة بعد الاستقلال وحتي الان يتميز بتقلبات سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية وتعكس حالة من اللاتوافق فى المبادئ الاساسية لبناء الدولة المبنية علي حقوق وواجبات المواطنة.

عند خروج المستعمر كانت هنالك فئات ذات نفوذ سياسي اقتصادي واجتماعي مهيأ لاستلام زمام الامور لتسيير البلد من المستعمر وهذا أمر طبيعي مرت بها معظم دول العالم الثالث، ولكن الاختلاف فى الحالة السودانية هو استمرار وإصرار تلك الفئات الاحتفاظ بتلك الوضعية الموروثة لنفسها كحق طبيعي دون غيرها.

تلك الفئات تشمل قيادات الاحزاب الساسية التقليدية مثل حزب والامة والاتحادي الديمقراطي، النخبة النيلية، كبار التجار واصحاب الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية، وزعماء القبائل والعشائر في وسط وشمال السودان. هذه الوضعية المختلة تاريخيا كانت وما زالت نقطة خلاف رئيسي وتعيق تحقيق حلم تأسيس دولة المواطنة تسود فيها العدالة.

هذه المعادلة المختلة قد ظهرت بصورة أكثر وضوحا مع بدايات ثورة ديسمبر 2018- إبريل 2019 عند ما ظهرت طرفان متناقضتان جمعهما واقعة إسقاط حكومة نظام الانقاذ والمؤتمر الوطني. ومجردالسقوط ظهرت تلك التناقضات بين الاطراف المختلفة وهم جنرالات الجيش بخلفياتهم وتوجهاتهم السياسية المرتبطة بنظام الانقاذ والمؤتمر الوطني رغم تحالفهم مع قيادات الدعم السريع ( إبن المؤتمر الوطني).

اما الطرف الاخر يضم قيادات الاحزاب السياسية المختلفة فى خطابها السياسي ورؤيتها لادارة البلاد. لكن سرعان ما إصطدمت شعارات الثورة الوليدة ( حرية – سلامة – عدالة) بطموحات الاطراف المتناقضة والمتعطشة للسلطة بغض النظر عن أمال الشعب السوداني التي عبرت عنها شعارات الثورة.

هذه التناقضات كشفت نوايا وتطلعات أطراف الفترة الانتقالية ورؤيتها للحكم القائمة علي المصالح الحزبية والشللية الضيقة، بل هي إستمرار للاختلالات التاريخية للنخب السياسية منذ الاستقلال ومن ابرز سماتها عدم الاتفاق والسير فى الخطوط المستقيمة دون تلاقي.

بعد مرور قرابة عامان من الحرب المدمرة ومقتل أكثر من 150,000 مواطن مدنى سودانى وتشريد ما يزيد عن 8 مليون داخليا و 2 مليون خارج الحدود الي دول الجوار، لا تزال أطراف الحرب تصر علي إستمرارها.

رغم الاختلافات فى الرؤي حول الجيش السودانى وصلتها بنظام الانقاذ والحركة الإسلامية السودانية بشكل عام، إلا أن ممارسات قوات الدعم السريع من قتل المدنيين بصورة جماعية وأحيانا بدوافع عرقية ومناطقية كما حدثت فى الجنينة جعل الكثيرين يتعاطفون ويقفون مع الجيش السوداني عسكريا وسياسيا رغم التحفظات المذكورة انفا.

لأن أسلوب الدعم السريع فى القتل والتعذيب الاغتصابات والاذلال وحرق القري وأعمال النهب والسلب وتدير الممتلكات العامة والخاصة. كل هذه الممارسات غير متعارف عليها فى الحروب الاهلية السودانية التي إستمرت لفترات طويلة بين الجيش السودانى والاطراف الاخرى المتمثلة فى الجيش الشعبي لتحرير السودان قبل إنفصال جنوب السودان مرورا بحروبات دارفور، جنوب كردفان، النيل الازرق وشرق السودان باستثناء تلك المنسوبة للجنجويد قبل ما تتحول الي الدعم السريع والتى أرتكبت فى دارفور بعد ظهور حركات الكفاح المسلح فى دارفور فى العام 2003.

بعد كل هذا الدمار وفقدان الارواح والممتلكات فى حق المواطن والوطن، ومظاهر النزوح الداخلي، اللجؤ الى دول الجوار بصورة جماعية والابتزاز الاجتماعى والسياسي التي مورست فى حق المواطن السودانى من سلطات تلك الدول خاصة إثيوبيا ومصر والهجرة الى دول الخليج بطرق مختلفة والمعاملة القاسية التي وجدت من تلك الدول. رغم كل ذلك، هل ما زلنا نعتقد ونتخيل بأننا شعب طيب، مسالم، كريم وشجاعة وذرة غيرة للوطن وغير ذلك من الصفات الحميدة والمترسخة نظريا فى مخيلتنا..؟؟؟ وبالتالى هل الشعب السودانى يعي بما حدث له..؟؟؟ اتمني ذلك!

 

بروفيسور/ محمد احمد نور علي إمام

abusakin55@gmail.com

المقالات ذات الصلة
- Advertisment -

الأكثر قراءة

أحدث التعليقات