فقد معتصم إبراهيم، شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، سيارته من طراز “تويوتا بوكس هايلوكس” في 20 مايو 2023، بحي أركويت شرقي الخرطوم، بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب في 15 أبريل. تُعتبر قصة معتصم حالة شائعة، إذ تعكس معاناة آلاف السودانيين الذين فقدوا سياراتهم خلال النزاع. العديد منهم تركوا سياراتهم في منازلهم أثناء نزوحهم، معتقدين أن الأزمة لن تستمر طويلاً. لكن، خالف الواقع توقعاتهم، حيث صُدموا لاحقاً باستخدام سياراتهم المدنية في المعارك من قبل عناصر قوات الدعم السريع.
نهب في وضح النهار
إنتشرت مئات المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي حول فقدان السيارات من قبل المدنيين، بعضها تم سرقتها من المنازل بينما أُخذت سيارات أخرى من الطرقات، بعد أن أُجبرت الأسر التي غادرت بيوتها على ترك سياراتها. هناك العديد من مقاطع الفيديو التي توثق ما حدث، حيث يظهر فيها مواطنون يستنجدون بترك سياراتهم.
سيارة مدنية ملطخة بالطين من أجل التمويه، تحمل جنودًا ملثمين، يرتدون الزي العسكري للدعم السريع. أوقف الجنود سيدة سودانية برفقة ابنها، في شهر مايو 2023، وأجبروهما على النزول من سيارتهم “لاند كروزر” وسط الخرطوم. حيث قاموا بتفتيش السيارة بفتح كل أبوابها، في الوقت الذي تستنجد فيه السيدة بترك سيارتها الوحيدة، مطالبة بأخلاء سبيلها قائلةً “عليكم الله ما تسوقوا عربتي ما عندي غيرها”. إلا أن الجنود أصروا على اقتياد السيارة، وتركوها وهي تصرخ من هول الصدمة، وكأنها استسلمت للأمر الواقع حفاظًا على حياتها، إذ طالبت فقط بحقيبتها التي كانت داخل السيارة. “فيديو السيدة”.
إفادة عثمان البلولة، من مدينة ود مدني، لـ”جبراكة نيوز” بأن سكان ولاية الجزيرة فقدوا آلاف السيارات منذ ديسمبر 2024، بسبب عمليات النهب المنظم. في أشارة إلى أن “مليشيات الشفشافة”، التي تساند قوات الدعم السريع، شاركت في عمليات النهب، بالتعاون مع مهربي البطانة.
وبعكس قصة معتصم التي تمثل حالة فردية في عملية نهب السيارات، يكشف سالم سعيد (اسم مستعار)، وهو موظف في إحدى المنظمات الأممية بجنوب دارفور، في حديثه لـ”جبراكة نيوز”، عن تفاصيل نهب سيارات الدفع الرباعي، من مقرات المنظمات الأممية عقب اندلاع الحرب. وأوضح أن عناصر من قوات الدعم السريع، والمليشيات المتحالفة معها، استهدفت أولًا مكاتب المنظمات الأممية في ولايات دارفور، قبل أن تتحول إلى نهب سيارات المدنيين.
سالم، الذي كان يعمل في مكتب نيالا، ويتولى مسؤولية متابعة السيارات، قال أنه بعد عمليات النهب، تمكن من تتبع مسار السيارات التابعة للمنظمة عبر أجهزة التتبع (GPS) المثبتة فيها. وتبين أنها توقفت لأشهر في عدة مناطق بجنوب دارفور، أبرزها منطقة بلبل أبجازو، الواقعة على بعد 40 كيلومترًا غرب نيالا، قبل أن تُنقل إلى دول الجوار مثل تشاد والنيجر وليبيا وأفريقيا الوسطى.
تشير إفادات سالم أن معظم السيارات نُزع منها جهاز التتبع بمجرد وصولها إلى هذه الدول، مرجحًا أن الأمر تم على أيدي ميكانيكيين محترفين. وقال سالم إن جميع مكاتب المنظمات الأممية في ولايات دارفور، تعرضت للنهب بشكل ممنهج، خاصة السيارات رباعية الدفع، ما يعكس حجم الفوضى الأمنية التي إجتاحت الإقليم منذ بدء النزاع.
تواجه قوات الدعم السريع إتهامات بنهب ممتلكات المدنيين، خاصة السيارات. ويؤكد المحامي عبد العظيم الطاهر لـ”جبراكة نيوز” أن متابعته لقضايا نهب السيارات، بصفته ممثلًا قانونيًا لعدد من المتضررين، كشف عن تورط أفراد من هذه القوات في سرقة المركبات. ويُستخدم بعضها في نقل المسروقات، بينما يتم تحويل البعض الآخر إلى مركبات عسكرية لدعم عملياتهم في المناطق التي يسيطرون عليها أو يهاجمونها.
ويشير عبد العظيم إلى أنه، وبمساعدة فريق تقني متخصص، تمكن من تتبع مسار ثلاث سيارات نُهبت من ولاية الجزيرة في يناير 2024. وأظهرت بيانات التتبع انتقالها أولًا إلى ولاية غرب كردفان، ثم إلى مدينة نيالا، عاصمة جنوب دارفور، قبل أن تختفي من خريطة التتبع الإلكتروني، مرجحًا أن يكون ذلك نتيجة فصل أجهزة التتبع من قبل فنيين مختصين.
بعض الأمل
على أمل استعادة سيارته، تقدم معتصم بلاغ إلكتروني، عبر منصة “تبليغ” التابعة للشرطة السودانية، وهي منصة مخصصة لاستقبال بلاغات المواطنين، أنشئت في يونيو 2023، لتمكين السودانيين من الإبلاغ عن السرقات والمنهوبات، بهدف مباشرة التحقيقات وإصدار النشرات الجنائية، بعد الدمار الذي طال مراكزها بمناطق النزاع.
يقول معتصم إبراهيم، في حديثه لـ”جبراكة نيوز”، أنه لا يزال متمسكًا بالأمل في العثور على سيارته التي سُرقت في خضم الحرب، خاصة بعد الأنباء المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي حول تمكن بعض المواطنين من استعادة سياراتهم في دول مثل تشاد، وبوركينا فاسو، إلى جانب جهود سلطات جنوب السودان التي احتجزت عددًا من السيارات ومنعت بيعها، متعاونة مع السلطات السودانية لإعادتها لأصحابها. ويعوّل معتصم على الجهود المشتركة بين الشرطة السودانية والإنتربول، حيث زودت السلطات السودانية المنظمة الدولية ببيانات السيارات المسروقة خلال فترة الحرب، التي يُعتقد أنها هُربت إلى دول الجوار.
من جانبها تواصل السلطات السودانية جهودها، بالتعاون مع المنظمة الدولية للشرطة الجنائية “الإنتربول”، حيث تقوم بتزويدها ببيانات السيارات التي تعرضت للسرقة خلال الحرب، وسط اعتقاد بأنها هُربت إلى دول الجوار. ويأتي هذا التعاون في إطار السعي لاسترداد السيارات المسروقة، ومواجهة التحديات الأمنية المتزايدة التي فرضتها تداعيات النزاع.
إحصائيات وبيانات
لا توجد إحصائيات شاملة حتى الآن، عن عدد السيارات التي تم سرقتها من السودانيين خلال الحرب الحالية في السودان، نظرًا لصعوبة جمع البيانات واستمرار الصراع الدامي. وهناك حالات قليلة تم الكشف فيها عن أعداد دقيقة وكبيرة للمسروقات من السيارات، مثلما أبلغت الشركة الوكيل لتويوتا في السودان، عن سرقة 1192 سيارة خفيفة و173 شاحنة، بالإضافة إلى عدد كبير من الدراجات النارية، من مخازنها في منطقة قري الحرة بالخرطوم بحري. لم تكن تجارب معتصم وسالم وغيرهما من السودانيين إستثناءً، بل شكلت جزءًا من ظاهرة أوسع تمتد عبر الحدود، وتُدار عبر شبكات إجرامية عابرة للدول.
حيث أصبحت السودان من أكثر الدول تعرضًا لسرقة السيارات، حيث نُهب 153,500 سيارة خلال العام الماضي من العاصمة الخرطوم حسب التقرير الذي أعدهد. كين جرمين، مستشار جرائم المركبات، بعنوان “تجارة السيارات المسروقة في أفريقيا.
وأشار التقرير إلى أن عددًا كبيرًا من الأشخاص تعرضوا للسرقة، بسبب تقاعس الشرطة وغياب المراكز الأمنية، حيث لم يكلف آلاف الضحايا أنفسهم عناء الإبلاغ عن الحوادث. وعلى الرغم من استرداد عدد قليل من السيارات رسميًا، يُعتقد أن معظمها قد تم استنساخها. كما تفيد التقارير بأن منطقتي دارفور وكردفان تعجان بالسيارات المسروقة، التي نُهبت من مناطق النزاع المختلفة. وفي العام الماضي، حُكم على 27 شخصًا بالإعدام قبل تخفيف العقوبة إلى السجن مدى الحياة بتهم تتعلق بسرقة السيارات واختطاف أصحابها للمطالبة بفدية، وذلك في العاصمة الخرطوم، وفقًا لتقرير د. كين.
قال الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة السودانية، العميد شرطة فتح الرحمن محمد التوم، إن إجمالي البلاغات المسجّلة عبر منصة البلاغ الإلكتروني تجاوز 44,602 بلاغ، من بينها 32,958 بلاغًا تتعلق بسرقة المركبات. وأوضح العميد فتح الرحمن أن الشرطة السودانية قامت بحظر جميع المركبات المسروقة في نظام المرور، كما أوفدت الإدارة العامة للمرور مأمورية إلى دولة جنوب السودان لمتابعة المركبات التي تم ضبطها هناك. وأضاف أن الشرطة أبلغت الإنتربول بسجلات المركبات المبلغ عنها، لضمان عدم تداولها أو بيعها في دول الجوار، مشيرًا إلى أن السلطات تمكّنت من ضبط كميات من المنهوبات عند المعابر الحدودية. كما أكد أن بلاغات المركبات المفقودة تُحظر فور تسجيلها، وقد تمكنت إدارة المرور من ضبط عدد منها أثناء محاولة حائزيها الجدد ترخيصها.
سيارات مستردة
تقول السيدة فاطمة المجذوب، وهي موظفة تقطن في حي الحلفايا، ونزحت بعد الحرب إلى القاهرة: “فقدت سيارتي، وهي صالون صغيرة، في 18 يوليو 2023، عندما تم أخذها من أمام منزل جدتي، بواسطة عناصر من الدعم السريع، الذين سرقوا إضافة إليها أكثر من خمس سيارات أخرى من الحي خلال تلك الفترة.”
وتضيف فاطمة: “في البداية، قيل لي إنهم لن يتمكنوا من أخذها لأنني فككت كمبيوتر السيارة والإطارات. ومع ذلك، حاولت نقلها إلى منطقة آمنة، لكنهم طلبوا مبالغ مالية كبيرة مقابل ذلك، مما زاد الوضع تعقيدًا، خاصة مع تدهور الأوضاع في أم درمان وغياب الجهات القانونية مثل النيابات.”
وتروي فاطمة أنها بعد سيطرة الجيش على جسر الحلفايا وفتح الطريق، علمت أن العديد من السيارات المسروقة تم العثور عليها. وتضيف: “أبلغ أخي عن سيارتي، وبحمد الله تم العثور عليها، رغم أن الزجاج كان مفقودًا. وعلى الرغم من أنني لم أتمكن من استلامها حتى الآن، إلا أننا متأكدون من أنها لم تتعرض لأضرار كبيرة”. واختتمت فاطمة حديثها لـ”جراكة نيوز” قائلة: “لم أكن أتوقع أبدًا استرجاع سيارتي، خاصة بعد سماعي أنباء تتحدث عن نقل السيارات المسروقة إلى خارج السودان”.
تهريب السيارات
يؤكد الناشط الحقوقي، مبارك إسماعيل، إن السيارات المسروقة استخدمت لأغراض عسكرية، ونقل إمدادات. وتم بيع جزء منها في أسواق سودانية، أو أسواق ودول الجوار. ويشير إلى أن فريقه الحقوقي، رصد عشرات مقاطع الفيديو، التي تؤكد استخدام قوات الدعم السريع سيارات المواطنين في العمليات العسكري، بعد إجراء تعديلات على هيكلها الخارجي، لتناسب العمل العسكري، كما رصد سيارات أخرى، تم بيعها في أسواق جنوب وشرق دارفور.
ويقول عامر عثمان، 48 عامًا، وهو تاجر متجول بين سوق النعام في منطقة أبيي وأسواق دارفور، لـ”جبراكة نيوز”: إن السيارات المنهوبة خلال الشهور الأولى للحرب، كانت تُنقل إلى مناطق ينتمي إليها جنود الدعم السريع والمستنفرون، بالإضافة إلى لصوص استغلوا الفوضى للسرقة. وأوضح أن بعض السيارات تداولت في أسواق دارفور، كردفان، شرق النيل، والبطانة، حيث استُخدمت في نقل البضائع والتهريب والمواصلات بين المدن، مما رفع قيمتها وزاد من استهلاكها.
وأشار عامر إلى أن السيارات المدنية الصغيرة فقدت جاذبيتها بعد 18 شهرًا من الحرب، بسبب وعورة الطرق، وارتفاع تكلفة الوقود، وتراجع الطلب عليها، ما أدى إلى انخفاض أسعارها بشكل كبير في الأسواق.
جهود مشتركة لاستعادة السيارات المنهوبة
وأضاف أنه شاهد عشرات السيارات المدنية المنهوبة تعبر إلى دولة جنوب السودان، عبر معابر الرقيبات بشرق دارفور، أبيي بجنوب كردفان، ومعبر ميوم المطل على ولاية الوحدة. وأكد سهولة إدخال السيارات إلى جنوب السودان وتقنين أوضاعها باستخدام أوراق مزورة. من جانبه كشف المفتش العام لشرطة جنوب السودان، أتيم مار ول، عن حصر دولته جميع المركبات المنهوبة والمسروقة من السودان.
وأكد المفتش أتيم، في أبريل الماضي أن جمع المركبات في مراكز شرطية، ووضعت عليها رقابة مشددة، إلى جانب إصدار توجيهات لجهات الاختصاص بعدم ترخيص أو بيع أي مركبة قادمة من السودان. وتأتي الخطوة كإجراء أولي قبل تسليم المركبات لحكومة السودان. فيما قال متحدث باسم الشرطة السودانية، إن جنوب السودان احتجزت مئات السيارات التي هُربت إليها، بعد اندلاع الحرب التي صاحبها نهب منظم لممتلكات ملايين السودانيين.
وقال المتحدث العميد شرطة فتح الرحمن محمد التوم، في تصريح صحفي، إن السودان أرسل قائمة بالمركبات المفقودة إلى الإنتربول “واستجابت جنوب السودان التي حجزت 365 مركبة من أصل عدد كبير من المركبات التي هُربت إليها”. وأشار إلى قوات الشرطة أرسلت فريقًا إلى جنوب السودان وقف على المركبات المفقودة.
وأفاد بأنه جرى التنسيق مع مديري الشرطة في المحيط الإقليمي، خلال اجتماعات منظمة تعاون رؤساء الشرطة في شرق أفريقيا “الإيابكو”، لاسترداد أيّ سيارة دخلت تلك الدول خلال فترة الحرب شريطة أن تكون مسجلة ضمن المنهوبات. وجددت الشرطة دعوتها للمواطنين بضرورة التبليغ عن الجرائم والمخالفات والانتهاكات التي تعرضوا لها، مشيرة إلى أن التبليغ هو الخطوة الأولى لبدء الدعوى الجنائية، مما يتيح للشرطة القيام بواجبها في كشف الجرائم وملاحقة الجناة.
استعادة سيارة
في حادثة تعكس تعقيدات سرقة السيارات خلال الحرب في السودان، تمكن ياسر، شاب من حي شمبات بالخرطوم بحري، من استعادة سيارته بعد أن فقدها خلال النزاع. يروي ياسر، وهو يقف في ميدان الأمة وسط العاصمة التشادية أنجمينا، كيف تتبع أثر سيارته حتى عثر عليها بعد 26 يومًا، وقد أصبحت تحمل لوحات مرور تشادية. وأوضح، على حسابه في على منصة “تيكتوك” لمقاطع الفيديو القصيرة، أنه استعادها عن طريق المحكمة التشادية، بعدما قدم الأوراق التي تثبت ملكيته.
تعكس قصة ياسر حجم المعاناة في محاولة البحث عن السيارات المفقودة، في حال قاد صاحب السيارة عملية البحث بنفسه. ولكن التكاليف المالية لمثل هذه الرحلة من وسط السودان إلى دولة تشاد، بلا شك طائلة. إضافة إلى المخاطر الأمنية، التي يمكن أن يواجهها الشخص، إذ قرر السفر عن طريق البر، أو ما يواجهه داخل دول تشاد نفسها. فمن المعروف إن عناصر من الدعم السريع منتشرة هناك، إضافة إلى خطورة العصابات التي تتعامل من المنهوبات، التي قد يكون لها امدادات فاسدة داخل الأنظمة الأمنية.
الآن، يفكر معتصم بجدية في السفر غربًا نحو تشاد للبحث عن سيارته بمجرد استقرار الأوضاع الأمنية وفتح الطرق، مؤكدًا أن الأمل لا يزال يحدوه.
أحدث التعليقات