الجنينة: شهادات الناجين من قلب المذبحة
جبراكة نيوز: فريق التحرير
- منصور الصويم
- عيسى مصطفي
- محمد الفاضل
كانت مغرورقة العينين بالدموع، وهي تسترجع لحظة إكتشافها لصورة والدها عبد الكريم وادي مقتولاً إلى جانب ثلاثة من أعمامها وابن عمها. “قتلوا جميعاً داخل منزلهم في حي الجبل يوم الجمعة 16 يونيو 2023، بعد يوم واحد فقط من اغتيال والي غرب دارفور، خميس أبكر”، تقول سلوى عبد الكريم، البالغة من العمر 29 عاماً، وهي أم لخمسة أطفال وموظفة في مستشفى الجنينة.
منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل، غرقت مدينة الجنينة في صراع دموي بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. تصاعدت المواجهات بشكل مأساوي. حيث اتُهمت قوات الدعم السريع باستهداف المدنيين على أسس إثنية، خاصة النازحين الفارين نحو تشاد. وفي منتصف يونيو 2023، اغتيل الوالي خميس أبكر في الجنينة في موجة من القتل الممنهج. وبحسب تقرير للأمم المتحدة، قتل نحو 15 ألف مدنيا في الجنينة في هجمات ترقى الى مستوى الجرائم ضد الانسانية، فيما هاجر نحو 500 ألف شخص إلى دولة تشاد ذات الحدود المشتركة مع الولاية، بحسب تقرير لجنة تقصي الحقائق في السودان، والمكوّنة من مجلس الأمن، إن أطراف النزاع استهدفوا المدنيين من خلال الاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي، والاحتجاز التعسفي والاعتقال، بالإضافة إلى التعذيب وسوء المعاملة.
ووصفت لجنة خبراء من الأمم المتحدة الانتهاكات التي وقعت في الجنينة بالفظائع وبأنها “قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
يقول الناشط الحقوقي حسين حسن إفاداته لـ”جبراكة نيوز” ما حدث في الجنينة يختلف تمامًا عن الحرب في باقي أنحاء دارفور والسودان، مشيرًا إلى أن الأحداث في المدينة تُعتبر جرائم ضد الإنسانية. وأضاف حسين أن “ما جرى في الجنينة لا يتعلق بحرب 15 أبريل، بل هو إبادة جماعية تستهدف العناصر الأفريقية في دارفور، وهي امتداد لما بدأ منذ عام 2003 واستمر خلال السنوات الماضية.”
مستشهدا بعملية تصفية الوالي والتمثيل بجثته أو من مشاهد أخرى لتقطيع أوصال وسط زغاريد نساء، بجانب عمليات دهس ودفن لاحياء فضلا عن العديد من الفظائع التي لم توثق.
حسين الناشط الحقوقي يقول إن قوات الدعم السريع سعت لملاحقته وهاجمت منزله في أم درمان بعد اندلاع الحرب، بجانب اغتيال ابن خاله أمير حسب الله في حي جبرة بالخرطوم اثناء عمليات البحث عنه، قبل إن يقوموا بمهاجمة منزلهم في مسقط راسه الجنينة ويغتالوا والدته، ليعودوا بعد يومين يومين ويقتلوا شقيقه أنور.
ومأساة أسرة المهندس والحقوقي حسين، لم تنتهِ بمقتل والدته وشقيقه، إذ لاحقت مجموعات من الدعم السريع بقية أفراد الأسرة وإغتالت إبن عمه أحمد تجاني تيمان في أمدرمان، بينما تمكن بقية أفراد الأسرة من النساء والأطفال الموجودين في الجنينة من الهروب الى دولة تشاد المجاورة بعد رحلة تعذيب على طول الطريق وهم يستقلون عربة كارو يجرها حمار، مخلفين وراءهم كل شيء.
تتحدث سلوى لـ”جبراكة نيوز” عن المجازر التي دمرت مدينتها وأسرتها. تقول بصوت مفعم بالألم: “لم أتخيل يوماً أن تصل الحرب إلى باب منزلنا. فقدت والدي وأعمامي في لحظة واحدة، وكأن العالم كله إنهار من حولي”.
الناشطة الحقوقية سمية سليمان عمرها 27 سنة، أم لطفلين وتسكن مع والدتها وشقيقها الأكبر في حي ينتمي غالبية قاطنيه للقبائل العربية، لذلك شعروا بالاستهداف مما دفعهم لتهريب شقيقها الأكبر، إلا أن ذلك جعلها هدفا لغضبهم ليقوم سبعة منهم بالتناوب على إغتصابها داخل منزلها أمام والدتها وأطفالها الصغار.
تقول سمية لـ”جبراكة نيوز” أنهم قرروا الهرب من المدينة بعد مقتل أبناء خالتها أثناء بحثهم عنها مرة أخرى لاغتيالها هذه المرة.
وتضيف إن قرار فرارهم تزامن مع مقتل الوالي، وتصبح الشوارع مزروعة بالقناصة والجثث والحرائق تعم المدينة، فسارت هي واطفالها وامها وخالتها ضمن المئات باتجاه أدري التشادية، بينما كانت عمليات القنص والاستهداف متواصلة على طول الطريق، ومن يسقط منهم لا أحد يجرؤ على مساعدته.
تروي المهندسة والناشطة الإنسانية إلهام محمد هارون 30 عاما، لـ “جبراكة “نيوز” تفاصيل مروعة عن الهجوم الذي تعرضت له مدينة الجنينة. قالت إلهام اقتحمت علينا المليشيات وقوات الدعم السريع بوحشية، كانوا يستخدمون عربات الدفع الرباعي الخيول المواتر وبعضهم مشاة، مسلحين بكل أنواع الأسلحة. هاجمونا داخل منازلنا، نشروا الرعب وأشاعوا الموت.”
وأضافت أن أحد المهاجمين اقتحم منزلها مهددًا إياها بسلاح، صارخًا: “أين” “الرجال؟” لترد قائلة: “ما في رجال هنا”. ومع ذلك، غادر فجأة عندما سمع صرخات رفاقه لدى اقتحامهم منزل الجيران تابعت: “رأيتهم يضربون ويقتلون أربعة من جيراننا المقربين، بل أحرقوا البعض بعد إطلاق الرصاص عليهم”.
في 12 مايو، تعرض حيهم لهجوم شرس من ثلاث جهات. تتذكر إلهام والدموع تنهمر من عينيها وهي تقول: كنت خائفة على شقيقتي الكفيفتين، 18 و20 عاما. حاولنا إخراجهما إلى منزل الجيران، وتركنا والدي ووالدتي في المنزل.”
وأوضحت إلهام أن والدها استهدف بسبب انتمائهم العرقي، مؤكدة أن المهاجمين لم يكتفوا بذلك، بل أطلقوا النار عشوائيا، ما أسفر عن مقتل طفلة من الجيران في جريمة أخرى، أشعلوا النيران في مسكن مسنتين إحداهما كفيفة، فاحترقتا حتى الموت.
الجنينة، التي كانت يوماً رمزاً للتنوع والتعايش، تحولت إلى مدينة أشباح، تعج بالمجازر والقصف العشوائي. في مايو 2023، بعد عيد الفطر، بدأ سكان الأحياء في النزوح الجماعي. “كل شخص كان يحاول إيجاد طريق للخلاص، بينما كنا نحتمي داخل منزلنا وسط القصف والصواريخ”، تضيف سلوى.
لم يسلم زوجها أيضاً من أهوال الحرب. كان يعمل ضابط صحة، لكنه تعرض للتعذيب على يد قوات الدعم السريع التي اقتحمت منزلهم. “اتهموه بالانتماء للجيش السوداني، واحتجزوه لفترة قبل أن يطلقوا سراحه وهو يعاني من جروح بالغة في يديه”، تقول سلوى، مشيرة إلى أنه لا يزال يعاني من تلك الإصابات حتى اليوم.
حصار الجنينة
تصف سلوى حصار الجنينة الذي إستمر 25 يوماً بأنه “كابوس لا نهاية له”. لم تتمكن من التواصل مع والدتها رغم أنهما كانتا في نفس المنزل. “كنا نعيش في غرف منفصلة، نتجنب الحركة خوفاً من القناصة المتمركزين على أسطح المباني ومآذن المساجد”.
أما الغذاء، فقد أصبح مسألة حياة أو موت. “كان كل فرد يعتمد على ما يحتفظ به من مؤن في غرفته. ومن لم يكن لديه شيء، كان الجوع مصيره المحتوم”، تضيف سلوى.
أحدث التعليقات