الجمعة, أبريل 25, 2025
الرئيسيةاخبار السودانالجنينة: شهادات الناجين من قلب المذبحة

الجنينة: شهادات الناجين من قلب المذبحة

الجنينة: شهادات الناجين من قلب المذبحة

جبراكة نيوز: فريق التحرير

  • منصور الصويم
  • عيسى مصطفي
  • محمد الفاضل

كانت مغرورقة العينين بالدموع، وهي تسترجع لحظة إكتشافها لصورة والدها عبد الكريم وادي مقتولاً إلى جانب ثلاثة من أعمامها وابن عمها. “قتلوا جميعاً داخل منزلهم في حي الجبل يوم الجمعة 16 يونيو 2023، بعد يوم واحد فقط من اغتيال والي غرب دارفور، خميس أبكر”، تقول سلوى عبد الكريم، البالغة من العمر 29 عاماً، وهي أم لخمسة أطفال وموظفة في مستشفى الجنينة.

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل، غرقت مدينة الجنينة في صراع دموي بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. تصاعدت المواجهات بشكل مأساوي. حيث اتُهمت قوات الدعم السريع باستهداف المدنيين على أسس إثنية، خاصة النازحين الفارين نحو تشاد. وفي منتصف يونيو 2023، اغتيل الوالي خميس أبكر في الجنينة في موجة من القتل الممنهج. وبحسب تقرير للأمم المتحدة، قتل نحو 15 ألف مدنيا في الجنينة في هجمات ترقى الى مستوى الجرائم ضد الانسانية، فيما هاجر نحو 500 ألف شخص إلى دولة تشاد ذات الحدود المشتركة مع الولاية، بحسب تقرير لجنة تقصي الحقائق في السودان، والمكوّنة من مجلس الأمن، إن أطراف النزاع استهدفوا المدنيين من خلال الاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي، والاحتجاز التعسفي والاعتقال، بالإضافة إلى التعذيب وسوء المعاملة.

ووصفت لجنة خبراء من الأمم المتحدة الانتهاكات التي وقعت في الجنينة بالفظائع وبأنها “قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

يقول الناشط الحقوقي حسين حسن إفاداته لـ”جبراكة نيوز” ما حدث في الجنينة يختلف تمامًا عن الحرب في باقي أنحاء دارفور والسودان، مشيرًا إلى أن الأحداث في المدينة تُعتبر جرائم ضد الإنسانية. وأضاف حسين أن “ما جرى في الجنينة لا يتعلق بحرب 15 أبريل، بل هو إبادة جماعية تستهدف العناصر الأفريقية في دارفور، وهي امتداد لما بدأ منذ عام 2003 واستمر خلال السنوات الماضية.”

مستشهدا بعملية تصفية الوالي والتمثيل بجثته أو من مشاهد أخرى لتقطيع أوصال وسط زغاريد نساء، بجانب عمليات دهس ودفن لاحياء فضلا عن العديد من الفظائع التي لم توثق.

حسين الناشط الحقوقي يقول إن قوات الدعم السريع سعت لملاحقته وهاجمت منزله في أم درمان بعد اندلاع الحرب، بجانب اغتيال ابن خاله أمير حسب الله في حي جبرة بالخرطوم اثناء عمليات البحث عنه، قبل إن يقوموا بمهاجمة منزلهم في مسقط راسه الجنينة ويغتالوا والدته، ليعودوا بعد يومين يومين ويقتلوا شقيقه أنور.

ومأساة أسرة المهندس والحقوقي حسين، لم تنتهِ بمقتل والدته وشقيقه، إذ لاحقت مجموعات من الدعم السريع بقية أفراد الأسرة وإغتالت إبن عمه أحمد تجاني تيمان في أمدرمان، بينما تمكن بقية أفراد الأسرة من النساء والأطفال الموجودين في الجنينة من الهروب الى دولة تشاد المجاورة بعد رحلة تعذيب على طول الطريق وهم يستقلون عربة كارو يجرها حمار، مخلفين وراءهم كل شيء.

تتحدث سلوى لـ”جبراكة نيوز” عن المجازر التي دمرت مدينتها وأسرتها. تقول بصوت مفعم بالألم: “لم أتخيل يوماً أن تصل الحرب إلى باب منزلنا. فقدت والدي وأعمامي في لحظة واحدة، وكأن العالم كله إنهار من حولي”.

الناشطة الحقوقية سمية سليمان عمرها 27 سنة، أم لطفلين وتسكن مع والدتها وشقيقها الأكبر في حي ينتمي غالبية قاطنيه للقبائل العربية، لذلك شعروا بالاستهداف مما دفعهم لتهريب شقيقها الأكبر، إلا أن ذلك جعلها هدفا لغضبهم ليقوم سبعة منهم بالتناوب على إغتصابها داخل منزلها أمام والدتها وأطفالها الصغار.

تقول سمية لـ”جبراكة نيوز” أنهم قرروا الهرب من المدينة بعد مقتل أبناء خالتها أثناء بحثهم عنها مرة أخرى لاغتيالها هذه المرة.

وتضيف إن قرار فرارهم تزامن مع مقتل الوالي، وتصبح الشوارع مزروعة بالقناصة والجثث والحرائق تعم المدينة، فسارت هي واطفالها وامها وخالتها ضمن المئات باتجاه أدري التشادية، بينما كانت عمليات القنص والاستهداف متواصلة على طول الطريق، ومن يسقط منهم لا أحد يجرؤ على مساعدته.

تروي المهندسة والناشطة الإنسانية إلهام محمد هارون 30 عاما، لـ “جبراكة “نيوز” تفاصيل مروعة عن الهجوم الذي تعرضت له مدينة الجنينة. قالت إلهام اقتحمت علينا المليشيات وقوات الدعم السريع بوحشية، كانوا يستخدمون عربات الدفع الرباعي الخيول المواتر وبعضهم مشاة، مسلحين بكل أنواع الأسلحة. هاجمونا داخل منازلنا، نشروا الرعب وأشاعوا الموت.”

وأضافت أن أحد المهاجمين اقتحم منزلها مهددًا إياها بسلاح، صارخًا: “أين” “الرجال؟” لترد قائلة: “ما في رجال هنا”. ومع ذلك، غادر فجأة عندما سمع صرخات رفاقه لدى اقتحامهم منزل الجيران تابعت: “رأيتهم يضربون ويقتلون أربعة من جيراننا المقربين، بل أحرقوا البعض بعد إطلاق الرصاص عليهم”.

في 12 مايو، تعرض حيهم لهجوم شرس من ثلاث جهات. تتذكر إلهام والدموع تنهمر من عينيها وهي تقول: كنت خائفة على شقيقتي الكفيفتين، 18 و20 عاما. حاولنا إخراجهما إلى منزل الجيران، وتركنا والدي ووالدتي في المنزل.”

وأوضحت إلهام أن والدها استهدف بسبب انتمائهم العرقي، مؤكدة أن المهاجمين لم يكتفوا بذلك، بل أطلقوا النار عشوائيا، ما أسفر عن مقتل طفلة من الجيران في جريمة أخرى، أشعلوا النيران في مسكن مسنتين إحداهما كفيفة، فاحترقتا حتى الموت.

الجنينة، التي كانت يوماً رمزاً للتنوع والتعايش، تحولت إلى مدينة أشباح، تعج بالمجازر والقصف العشوائي. في مايو 2023، بعد عيد الفطر، بدأ سكان الأحياء في النزوح الجماعي. “كل شخص كان يحاول إيجاد طريق للخلاص، بينما كنا نحتمي داخل منزلنا وسط القصف والصواريخ”، تضيف سلوى.

لم يسلم زوجها أيضاً من أهوال الحرب. كان يعمل ضابط صحة، لكنه تعرض للتعذيب على يد قوات الدعم السريع التي اقتحمت منزلهم. “اتهموه بالانتماء للجيش السوداني، واحتجزوه لفترة قبل أن يطلقوا سراحه وهو يعاني من جروح بالغة في يديه”، تقول سلوى، مشيرة إلى أنه لا يزال يعاني من تلك الإصابات حتى اليوم.

حصار الجنينة

تصف سلوى حصار الجنينة الذي إستمر 25 يوماً بأنه “كابوس لا نهاية له”. لم تتمكن من التواصل مع والدتها رغم أنهما كانتا في نفس المنزل. “كنا نعيش في غرف منفصلة، نتجنب الحركة خوفاً من القناصة المتمركزين على أسطح المباني ومآذن المساجد”.

أما الغذاء، فقد أصبح مسألة حياة أو موت. “كان كل فرد يعتمد على ما يحتفظ به من مؤن في غرفته. ومن لم يكن لديه شيء، كان الجوع مصيره المحتوم”، تضيف سلوى.

 

لم يكن عبد الكريم وادي مجرد تاجر في سوق الجنينة، بل كان عمدة بارزاً في الإدارة الأهلية لقبيلة المساليت في منطقة بريدية، مسقط رأسه. بالنسبة لسلوى، ابنته، لم تكن هذه المكانة إلا سبباً إضافياً لاستهدافه. “لاحقت قوات الدعم السريع زعماء الإدارة الأهلية لقبيلة المساليت، من العمد والفرش، ومن بينهم أبي، واغتالتهم إلى جانب الناشطين والمحامين”، تقول سلوى بحسرة، مضيفة أن استهداف الكوادر الطبية وإجبارهم على معالجة جرحى القوات كان جزءاً من حملة القمع.

تقول سلوى: “ما حدث في الجنينة لم يكن مجرد حرب، بل إبادة ممنهجة استهدفت قادتنا وأحلامنا”.

تضيف ايضا: “اغتيال والدي كان ضمن سلسلة من الجرائم التي طالت قادة المجتمع المحلي، في محاولة لمحو أي صوت يمكن أن يقود المقاومة أو يسعى للتعايش”. لم يكن والدها الوحيد الذي ذهب ضحية هذا العنف المنهجي، بل امتدت يد الموت إلى جيرانهم، حيث وثقت سلوى عبر الإنترنت مقتل المحامي عبد الخالق والمحامي ود السلطان، بالإضافة إلى العديد من الأسر التي قُتلت في منازلها. تقول سلوى: “استهداف زعماء الإدارة الأهلية لم يكن مجرد عمل عشوائي، بل كان خطوة مدروسة للقضاء على رموز القبيلة وزعزعة استقرار المجتمع”.

ويقول حسين انه كان نشطا منذ العام 2003 في رصد انتهاكات “الجنجويد” بمدينة الجنينة، تلك الأحداث التي يصعب الإمساك بخيوطها، والتي قد تعود بأصلها إلى التوترات في عام 2003، والتي التي تحولت لاحقًا إلى قتال دامٍ ما زال يلقي بآثاره حتى اليوم، قُتل العشرات في هجمات كريندق. وحدث ذلك في ظل تقاسم العسكريين والمدنيين للسلطة بعد سقوط البشير، وما صاحبها من هشاشة أمنية.

وكانت سلطنة دار مساليت أعلنت إبان الأحداث عن مقتل فرشة مستري الفرشة محمد أرباب وإبنه وثمانية من أحفاده في أردمتا بالجنينة بواسطة الدعم السريع يوم. وقال مواطنون فروا إلى تشاد، يوم السبت، إن قوات الدعم السريع ارتكبت فظائع في مواجهة المواطنين في اردمتا.

وقالت فروشية عيش بره إن الفرشة محمد أرباب يعتبر أحد قيادات الإدارة الأهلية وأحد أقدم أعمدتها بأقاليم دارفور وسلطنة دار مساليت على وجه الخصوص، وأشارت إلى تقلده فرشة فروشية مستري في العام 1959م. وتعتبر الفروشية إحدى مستويات الإدارة الأهلية في سلطنة دار مساليت. وأدى هجوم الدعم السريع على مقر قيادة الفرقة 15 في الجنينة منذ الاسبوع الماضي إلى نزوح عدد كبير من مواطني منطقة أردمتا والأحياء المجاورة إلى أحياء أخرى حيث يفترش بعضهم المساجد والعراء، بينما تواصل تدفق اللاجئين إلى تشاد ليرتفع إلى ثلاثة آلاف لاجئ يومياً.

‎⁨شهود عيان تحدثوا ل (بي بي سي) عن هذه السيارة عليها علم السودان وهي تحمل جثامين مجهولة لدفنهم في مقابر جماعية في الجنينة

تعرضت منطقة مستري (40 كيلومتر جنوب مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور) صبيحة السبت الموافق 25/7/2020 لهجوم من قبل مليشيات مسلحة واستمر الهجوم الغادر لمدة تسع ساعات خلف العديد من الشهداء والجرحى وتم إجلاء الجرحى في يوم الأحد 26/7/2020 إلى مستشفى السلاح الطبي وتم تحويل الحالات الحرجة منها إلى مستشفى الجنينة التعليمي.

نقل حسين خبراته في الرصد والتقصى إلى شقيقه أنور، الذي كان يعمل على تغطية الأحداث للإيصالها إلى منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام المستقلة. هذا يفسر جانب من عمليات الإغتيال المنظم التي استهدفت محامين وناشطين حقوقين.

الخلفية التاريخية لسلطنة المساليت

أسس المساليت دولتهم ما بين عامي 1884 و1921، واختاروا سلطنتهم التاريخية وأسموها “دار المساليت. واجهت الاستعمار الفرنسي بشراسة في 3 معارك حاسمة، أبرزها معركة “كِرِيْدِنْقْ” التي تعني “أخرجوهم عنوة”، ودارت عام 1910 وكانت تعوّل فيها فرنسا على إلحاق هزيمة نكراء بالمساليت وبعد ذلك الاستيلاء على أراضيهم ولمستعمرتها “السودان الفرنسي” المكونة من عدة دول أفريقية منها تشاد والكاميرون والنيجر وأفريقيا الوسطى ودول غرب أفريقيا.

لكن أهالي قبيلة المساليت استعدوا لهذه الحرب واستغلوا عدم دراية أعضاء الجيش الفرنسي بتضاريس المنطقة، فتمكنوا من الانتصار على القوات الفرنسية، رغم توفرها على عتاد حربي وعسكري ضخم ومتطور.

وفي عام 1919، أصبحت سلطنة دار المساليت آخر سلطنة مستقلة معترف بها في تاريخ السودان، ورفعت مطلب تقرير المصير وفقا للاتفاقية التي أبرمت عام 1919 بينها وبين بريطانيا وفرنسا، وخلصت إلى تنازلها عن منطقة “أدري” الواقعة حاليا في تشاد لصالح فرنسا، وضُمت دار المساليت في تلك الفترة للسودان الإنجليزية.

وفي ظل هذا الإرث التاريخي كبير للمساليت في دارفور، وفي مدينة الجنينة بالتحديد، باعتبارها مقرًا للسلطنة التاريخية للمساليت، اتخذ الصراع بُعدًا تنافسيًا مع القبائل العربية الرحّالة، ما جعل النزاع يتغذّى على العديد من المحفزات العنصرية والعرقية تجاه قومية المساليت.

يقول الباحث في تاريخ وتراث دارفور في كتابه عن: المساليت “Masaraa” منذ عهد السلطان بحرالدين أبكر “اندوكة” وبعد استيلاء الفرنسيين على منطقة بحيرة تشاد وسلطنة الوادي وفرض سيطرتهم عليها، بدأت القبائل العربية تهاجر الي المنطقة وهم يجوبون الحزام السوداني بحثاً عن الكلأ والماء لمواشيهم ولم يكن الاستقرار من طبعهم حتى قال أحدهم:

 يا دنيا دار الغش……علمت ابويا الحش

كان البدو يحتقرون عمومًا حياة الاستقرار بكل ما تمثله من زراعة وصناعات ومبانٍ ثابتة. لم يكن الاستقرار يومًا خيارًا مطروحًا بالنسبة لهم، فقد اعتادوا الترحال والتنقل بحرية في تلك الديار التي اعتبروها ملكًا لهم، يسرحون فيها حيث شاءوا بلا قيود. وقد دفعتهم عدة عوامل للهجرة، كان أبرزها القسوة التي مارستها السلطات الاستعمارية الفرنسية في غرب إفريقيا، حيث تعاملت بوحشية مع الرعاة وسكان المناطق التي أخضعتها لنفوذها. كما ساهم بطش الدولة المهدية عام 1888م في دفع أعداد كبيرة من الرحل إلى الهروب غربًا، بحثًا عن ملاذ آمن.

ورغم مرور الزمن واندماج هذه المجموعات في الدولة السودانية الحديثة، لا تزال الرمزية التاريخية حاضرة بقوة، تتجلى في بقاء منصب “سلطان المساليت” قائمًا حتى اليوم، ويتولاه حاليًا السلطان سعد بحر الدين. كما أن النظام الإداري الأهلي لا يزال يحظى باعتراف رسمي من مؤسسات الدولة، شأنه في ذلك شأن أنظمة مماثلة في عدة مناطق من السودان، مع تميّز دارفور بخصوصية استثنائية نابعة من تنوعها القبلي والإثني والثقافي.

وفي مشهد إنساني موجع، تروي سلوى عبد الكريم بصوت مملوء بالحزن فصولًا من مأساة عائلية مريرة خلفتها أحداث الجنينة الدامية. كانت جدتها – والدة والدها – واحدة من ضحايا تلك الكارثة، إذ شهدت بأم عينيها مقتل ثلاثة من أبنائها. تقول سلوى: “غادرت جدتي المدينة بعد المجزرة، لكنها يا للأسف لم تصل إلى معسكرات اللاجئين في تشاد. بحثنا عنها طويلًا، وتواصلنا مع شهود أكدوا أنهم رأوها في الطريق نحو منطقة أدري، لكنها اختفت ولم نعثر عليها حتى الآن.”

نجحت سمية وأسرتها في الوصول إلى الاراضي التشادية وسط ظروف معيشية صعبة تواصلت عمليات التهديد بالقتل عبر الرسائل النصية والواتساب: “إحنا عارفنك وديتي أولادك أدرى برضوما بنخليك إذا كنت في إدري ولا أبشي ولا أي حتة وأولادك ذاتو تاني ما بسلموا مننا”.

نجت سمية رفقة أولادها ووالدتها وخالتها من مجازر مدينة الجنينة، لكن التهديدات بالقتل لا تزال تلاحقها وتجعلها تحيا في حالة من الرعب المتواصل.

وفي مواجهة المجازر التي ضربت الجنينة شاركت إلهام في مبادرة شبابية لدفن الجثث المنتشرة في الشوارع. قالت: “كنا نجمع الجثث تحت تهديد المليشيات الذين كانوا يسخرون منا قائلين: دعوا جثث المساليت لتأكلها الحيوانات.”

بعد أربعة أشهر من الخوف والاختباء، تمكنت إلهام وأسرتها من الهروب إلى تشاد، لتصبح لاجئة وسط الآلاف الفارين من الحرب. ختمت حديثها بمرارة قائلة: “ما رأيته في الجنينة لن يُمحى من ذاكرتي. إنها مأساة إنسانية بكل المقاييس.

مسار الهروب

في ليلة مظلمة من ليالي مايو 2023، غادرت سلوى عبد الكريم منزلها في الجنينة، وهي حبلى بطفلها السادس، عبد الكريم، الذي سمّته على اسم والدها. كان يرافقها خمسة أطفال، أكبرهم لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، حين قررت ترك مدينتها التي تحولت إلى ساحة حرب، باحثة عن الأمان وسط مخاطر لا تحصى.

تضيف سلوى أن قرارها بمغادرة الجنينة مع أطفالها كان محفوفاً بالمخاطر. أثناء رحلتها، صادفت جثثاً متناثرة على جانبي الطريق، مشاهد تركت أثراً نفسياً عميقاً على أطفالها. “ابنتي الكبرى، التي تبلغ من العمر 13 عاماً، تأثرت بشكل خاص، وأصبحت تعاني من تبول لا إرادي بسبب الصدمة”، تقول سلوى، واصفة كيف غيّرت هذه المأساة حياتهم إلى الأبد.

“كان وادي كجا ممتلئًا بالمياه”، تتذكر سلوى وهي تستعيد تفاصيل تلك الليلة. رجل طيب يمتلك عربة كارو تجرها الحمير عرض عليها المساعدة. “حملنا أنا وأطفالي وأرشدنا إلى الطريق. كان يدرك أن المليشيات العربية التابعة للدعم السريع تتجول حول المدينة، تقتل الأطفال الذكور الذين يهربون مع أسرهم”.

رغم أن معظم الفارين كانوا يتجهون إلى مدينة أدري التشادية، اختارت سلوى أن تسلك طريقًا شرقيًا يقودها إلى منطقة أردمتا، حيث كانت قيادة الجيش لا تزال صامدة. “أوصلنا صاحب الكارو إلى هناك، لكن الجيش ظل متفرجًا على الانتهاكات التي تعصف بالمدينة”، تقول سلوى.

من أردمتا، انتقلت سلوى وأطفالها إلى منطقة أزرني، حيث واجهت سيارات أجرة تتبع قوات الدعم السريع. ولحسن حظها، كانت السيارات تقل أطباء يغادرون الجنينة. “تعرفت عليهم من عملي في المستشفى، لكن السائق رفض السماح لنا بالصعود إلا بعد دفع الأجرة”. لم يكن لديها مال، فتفاوضت معهم وقدمت غويشة ذهبية وحلقًا لتأمين مكان في السيارة.

وصلت إلى كبكابية بعد رحلة شاقة قضت ليلتها وسط الجبال، ومن هناك تمكنت من العثور على وسيلة نقل إلى الفاشر. هناك، لجأت إلى الكذب لتنجو؛ حين سألها السائقون عن قبيلتها، ادعت الانتماء إلى القبائل العربية خوفًا على حياتها وحياة أطفالها.

في الفاشر، وبعد أن باعت خاتمها الذهبي الأخير، وجدت سلوى أناسًا طيبين ساعدوها بالطعام والملابس لأطفالها، وأمّنوا لها مقاعد في عربة متجهة إلى مدينة الضعين. ومن هناك، بدأت رحلتها الطويلة نحو جوبا في جنوب السودان، وسط الأمطار ووعورة الطرق.

“قضيت 30 يومًا في الطريق. لم يكن لدي أي أخبار عن أهلي، وكنت مشغولة فقط بسلامة أطفالي”، تقول سلوى. وصلت أخيرًا إلى جوبا، حيث لجأت إلى مسجد أشار إليها سوداني طيب في المدينة. وواصلت سلوى رحلتها من جوبا إلى أوغندا، وتحديدًا منطقة ألوقو، حيث تلقت أول رسالة من زوجها عبر واتساب، وعدها فيها بالانضمام إليهم.

مواجهات دموية

اندلع القتال في الجنينة في اليوم الأول للحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.  حيث استهدفت الاخيرة السيطرة على الحامية 15 التابعة للجيش في المدينة. لكن، ورغم الهدف العسكري للقتال في الجنينة، إلا أنه بدأ يأخذ طابعًا عرقيًا منذ الساعات الأولى، خصوصًا مع انتماء أعداد كبيرة من أبناء المساليت للجيش السوداني.

في نوفمبر العام 2023 تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على حامية الجيش هناك، وبالتالي السيطرة والقضاء على أي شكل من أشكال المقاومة، ما ترتب عليه هجرة مئات الآلاف من المواطنين متخذين دولة تشاد وجهة لهم، ما أفرز معاناة إضافية لهم مع تدهور الأوضاع في المعسكر، ونقص الغذاء والمؤن، وفق تقارير متواترة لمنظمات تطوعية وأممية.

وبعد تمكن قوات الدعم السريع من السيطرة على الولاية، كلفت التجاني الطاهر كرشوم، المحسوب على الدعم السريع، كوالٍ للولاية، كما حاولت أن تسير الحياة اليومية عبر تشغيل أقسام الشرطة والمحاكم، إلا أن الشهادات الواردة من هناك، تؤكد أن الولاية أصبحت خالية من معظم سكانها.

وتشهد الولاية وعاصمتها الجنينة، تواجداً كبيراً لقوات الدعم السريع في الوقت الحالي، والتي يتولى قيادتها اللواء بالدعم السريع، عبد الرحمن جمعة بارك الله، والذي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإصدار عقوبات بحقه على خلفية ضلوعه في الأحداث التي أدت مقتل الوالي السابق لغرب دارفور خميس أبكر

تشرد ومعاناة

بعد عام كامل من التشرد والمعاناة، استقرت سلوى عبد الكريم وأطفالها في معسكر كرياندقو للاجئين في شمال أوغندا، عقب ترحيلهم من معسكر نيومازي شمال البلاد. في كرياندقو، قدمت الجهات الراعية بعض الدعم للعائلات اللاجئة، حيث وفرت لهم المشمعات والحطب لبناء مساكن بسيطة.

تعد الأوضاع الإنسانية في معسكرات اللاجئين، مثل معسكر كرياندقو الذي استقرت فيه سلوى ضمن أكثر من 45 ألف اخرين، كارثية. وفقًا لتقديرات منظمات الإغاثة، يحتاج حوالي 60% من اللاجئين في شمال أوغندا إلى مساعدات غذائية عاجلة، بينما 30% منهم يفتقرون إلى الرعاية الصحية الأساسية. العديد من الأطفال يعانون من نقص التغذية، في حين تعاني النساء من نقص الحماية ضد العنف الجنسي.

تعتقد سلوى أن الاحتياجات في المعسكر تفوق بكثير الخدمات المقدمة. تقول بحسرة: “عدد المنظمات العاملة هنا لا يتناسب مع حجم المأساة وعدد اللاجئين”، مشيرة إلى التحديات اليومية التي تواجهها في توفير الاحتياجات الأساسية لأطفالها.

ابنها البالغ من العمر ست سنوات أصيب بشظية في عينه قبل مغادرتهم الجنينة. “عرضته على أطباء في معسكر اللاجئين، وأجرى عملية في كمبالا، لكنها لم تنجح. ما زال لا يرى بعينه، ونحن في انتظار عملية أخرى”.

منظمات حقوقية

وجاء تقرير “هيومن رايتس ووتش” في 218 صفحة بعنوان “لن يعود المساليت إلى ديارهم: التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية في الجنينة، غرب دارفور، السودان”، ويوثق قيام قوات الدعم السريع، وهي قوة عسكرية مستقلة تقاتل الجيش السوداني، والميليشيات المتحالفة معها، بما فيها “الجبهة الثالثة-تمازج”، وهي جماعة مسلحة، باستهداف أحياء الجنينة التي تسكنها أغلبية من المساليت في هجمات متواصلة بين أبريل ويونيو. ويوضح متابعات جبراكة أن الانتهاكات تصاعدت مرة أخرى في أوائل نوفمبر إذ ارتكب المهاجمون انتهاكات خطيرة أخرى مثل التعذيب والاغتصاب والنهب.

ويقول التقرير المنشور في الموقع الرسمي للمنظمة هيومن رايتس وواتش: فرّ أكثر من نصف مليون لاجئ من غرب دارفور إلى تشاد منذ أبريل 2023 حتى أواخر أكتوبر 2023، كان 75% منهم من الجنينة.

وقالت تيرانا حسن، المديرة التنفيذية لـ هيومن رايتس ووتش: “بينما يدرك مجلس الأمن الدولي والحكومات الكارثة التي تلوح في الأفق في الفاشر، ينبغي النظر إلى الفظائع الواسعة التي ارتكبت في الجنينة على أنها تذكير بالفظائع التي يمكن أن تحدث في غياب عمل منسق. على الحكومات، والاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة التحرك الآن لحماية المدنيين.”

حسين الذي انتخب لاحقا رئيسيا للجنة اللاجئين السودانيين في معسكر كرينادينقو، يطالب من جانبه بتصنيف الانتهاكات التي تمت في الجنينة باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، ومحاسبة كل المتورطين فيها.

ورغم كل ما مرت به، تظل سلوى متمسكة بأمل عودة السلام. في ختام حديثها، تقول: “أمنيتي أن تقف الحرب ويعود الأمن والسلام لإنسان مدينة الجنينة والسودان. الجراح عميقة، لكنها ليست مستحيلة على الاندمال. أتمنى أن تزول الكراهية التي تعمق الانقسامات، لأنها السبب الرئيسي لما نحن الآن”.

المقالات ذات الصلة
- Advertisment -

الأكثر قراءة

أحدث التعليقات